مدخل إلى الاستغراب* -الحلقة الثانية- د. عبد الله الشارف كلية أصول الدين/ كلية الآداب تطوان

مع مرور الزمن وبفضل الاحتكاك مع المستعمر عن طريق البيع والشراء، وممارسة مختلف أنواع النشاط الاقتصادي، كان من الضروري أن يتأثر أسلوب حياة الفئة البورجوازية بأفكار المستعمر ونمط عيشه. وإقبال أبناء هذه الفئة، قبيل الاستقلال وبعده، على المدارس والمراكز الثقافية الفرنسية ثم الالتحاق بفرنسا، دليل من بين عشرات الأدلة على ذلك الذوبان.

وهناك عناصر داخل الفئة المنبهرة، ثارت بدافع من الفقر أو الجهل بمبادئ الإسلام، أو من الأمرين معا، في وجه التقاليد المغربية والدينـية والثقافـية والتراث، وعانقت ثقافة المستعمر وأحبت لغته، وعبرت من خلالها عن مشاعرها وآمالها. وهذه الفئة هي التي نذرت نفسها -عـن وعـي- لتكريس نفوذ المستعمر وثقافته ولغته. فكان منها كتاب وقصاصون وروائيون وغيرهم.
وتبوأ كثير منهم ومازالوا، مقاعد مهمة داخل مرافـق الدولة، خصوصا فيما يتعلق بالإدارة والثقافـة والتربيـة والتعليم. ومن ناحية أخرى لم يكن الاستغراب لينحصر في الفئة البورجوازية وأبنائها وفي الفئة المثقفة الثائرة فقط، وإنما سيعم المجتمع المغربي والمدني فيما بعد الاستقلال.
هذا الاستغراب يتجسد في إقبال الناس على كل منتوج غربي، مادي أو معنوي، ولو كان مضرا ومتعارضا مع عاداتهم وتقاليدهم الدينية. فالناس في المدن يطربون للموسيقى الغربية، ويفتخرون باللباس الأوربي، ويتباهون بالسلوك الغربي المتحرر. باختصار إنهم يلمسون في باطنهم ميلا إلى اقتناء أو ممارسة كل ما يأتي به الغرب، ميلا إلى تقليد الأوربيين إلا في العلم والمعرفة.
إن ظاهرة الاستغراب ولدتها عوامل اجتماعية وتاريخية قبل مجيء الاستعمار وبعده. لكن العامل النفسي قد يضطلع هو الآخر بدور أساسي، ويبدو أن الاستغراب سيظل مكرَّسا في كل مجتمع عاش زمنا تحت نير الاستعمار، ما لم يصح من إغمائه الذي أصابه عندما داهمه المستعمر.
لقد كان المغربي قبيل مجيء الاستعمار يعيش في وضعية متردية ومنحطة تشوبها الفوضى والصراعات القبلية، مع تفشي الجهل وضعف الإيمان والعقيدة، بالإضافة إلى وجود نوع من التقوقع على الذات، وعدم الانفتاح على العالم الأوربي الذي كان وقتئد على مستوى كبير من التطور والتقدم والقوة، فلما أصبح المستعمر أمام بابه وعاين قوته وعظمته، أصابته الحيرة ثم دخل عالم الإغماء النفسي، ولم يعد يملك ما كان قد تبقى له من قوة العقل والتمييز، فخارت قواه واستسلم للأمر الواقع. وبما أن الضعيف مولع بتقليد القوي كما يقول ابن خلدون، كان من المتوقع أن يسلك المجتمع المغربي سلوكا يناسب المجتمع الضعيف والمنهزم نفسيا.
ويبدو أن آثار الصدمة النفسية التي أصابت المغربي عند مجيء الاستعمار مازالت تنخر باطنه. إن ممارسته للاستغراب دليل على أنه مافتئ يعاني الإغماء النفسي أو “الدوار” الذي أصابه منذ ما يقرب من قرن من الزمان، لأنه لا يمكن أن يفسر تعلق وحب إنسان لإنسان آخر، يعلم الأول منهما أن الثاني وطئ أرضه، وداس كرامته وقتل آباءه وشرد أهله وعشيرته، ومازال يستعمره عن طريق الغزو الفكري، إلا بكون الإنسان الأول مستلبا وواقعا تحت تأثير نفسي خطير، وفاقدا لقدرة التمييز.
ومن هنا يتبين أن الشعوب الأوربية المستعمرة تحارب كل نهضة أو عودة إلى الذات، تظهر في بلد كانت تحكمه أيام الاستعمار، لأن العودة إلى الذات ستجعل الإغماء النفسي ينجلي ويصحو صاحبه بعد سكر.
ثم إن المستغربين من “المثقفين” المغاربة انخدعوا -كغيرهم من المستغربين في الشرق الإسلامي- بأسطورة الحضارة العالمية أو الثقافة الكونية، تلك الأسطورة القائمة على أساس أن العالم وطن واحد -ثقافيا وفكريا وحضاريا- رغم وجود الحدود السياسية والحواجز الجغرافية، وأن الأمم والشعوب والقوميات مجرد درجات ومستويات في البناء الواحد للحضارة المعاصرة.
ومن ثم لا حرج من أن نتبنى الثقافة العالمية، ونسلك السبل المؤدية إلي تمثلها، بل من الواجب علينا المبادرة بذلك قبل فوات الأوان.
كما أن هذا التطور العالمي للثقافة يروج له في الداخل والخارج بشتى الأساليب والإمكانيات، ويبذل القائمون عليه مجهودات كبيرة لإخفاء دوافع نشره والدعوة إليه، لدرجة أن المستغربين -من شدة انخداعهم- يرون أن عبور الفكر الغربي لحدوده وسريانه في جسد الأمة الإسلامية، لا ينطوي على أدنى شبهة غزو أو أثر عدواني. وياليت مستغربينا دعوا إلى الاستفادة من الثقافة الكونية جمعاء، أي تلك التي تنطوي تحت لوائها الثقافات والحضارات المتعددة، غير أنهم اختزلوا كل ذلك في ثقافة وحيدة هي ثقافة الغرب.
وتجدر الإشارة إلى أن ظاهرة الاستغراب من جهة، والدعوة إلى الثقافة الكونية من جهة أخرى، لا يمكن فهمهما بعمق إلا في إطار عملية التغريب التي يضطلع بها الغربيون منذ أزيد من قرنيين.
والتغريب من بين الموضوعات الأساسية التي نالت اهتمامات المعنيين بالمجال الثقافي في العقود الأخيرة. ذلك أن بلدان ما يسمى بالعالم الثالث أضحت منذ زمن الاستعمار هدفا للأطماع الغربية والغزو الفكري الخبيث.
ولعل من نافلة القول التأكيد بأن ثقافات “العالم الثالث” لم تتعرض طوال تاريخها لما تتعرض له الآن من محاولات الهيمنة والاحتواء والإذابة. ويذهب بعض الدارسين إلى أن التهديد الذي يستهدف الهوية الثقافية في الدول النامية أخـذ يخيف البلدان الأوربية نفسها، مما حـذا بالمسؤولين الأوربيين إلى عقد لقاءات ومؤتمرات أشهرها المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية، الذي انعقد في المكسيك سنة 1982م من أجل الدفاع عن الثقافات المحلية، والحيلولة دون ذوبانها في الثقافة الأمريكية، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى من خـلال سياستـها الثقافيـة الخارجيـة إلى ماسمي بـ “أمركة العالم ثقافيا”.
ـــــــــــــــــــــــــــ

* من كتاب: الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *