6- كمال بصر الله تعالى:
ككل صفات البارئ سبحانه التي بلغت في الكمال منتهاه، فصفة البصر له تعالى بلغت في الكمال غايته، فلا أكمل من بصره سبحانه، وكمال بصره جل في علاه يتجلى في عدة أمور منها:
أ- أنه يبصر كل شيء ولا يعزب عن بصره شيء جل وعلا، فبصره قد أحاط بكل المبصرات ووسعها، فلا أبصر منه، كما قال تعالى: “أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ”، وهذا” تعجب من كمال سمعه وبصره، وإحاطتهما بالمسموعات والمبصرات”( ).
“وذلك بمعنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه. وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكلّ موجود، وأسمعه لكلّ مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء”( ).
فبصره سبحانه “يتعلق بكل مرئي مهما لطف لا يؤثر فيه بعد مسافة ولا يمنعه حجب وأستار، فهو سبحانه مع كونه فوق عرشه عاليا على خلقه يرى أصغر مخلوقاته وهي النملة…ويرى تحرك أجفان خلقه في أغماضها وفتحها”( ).
يقول الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى: “نحن نقول: لربنا عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الأرض السابعة السفلى، وما في السموات وما بينهما من صغير وكبير، لا يخفى عليه خافية، فهو تعالى يرى ما في جوف البحار ولججها كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه”( )….
ب- أنه لا يحجب بصره شيء، وهذا تابع لما سبق، فإن الله جل في علاه لكمال بصره يرى الشيء من وراء الأشياء، ومهما كثرت الحواجب فإنها لا تحجبه سبحانه عن رؤية ما ورائها مهما صغر أو دق.
وتمام هذا في الآتي:
7- الفرق بين بصر الله تعالى و بصر المخلوق:
اسم “البصير” من الأسماء المشتركة التي سمى الله بها نفسه وسمى بها بعض خلقه، قال تعالى عن نفسه: “إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”-غافر:20-، وقال عن خلقه من الإنس:” فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا”-الإنسان:2-
لكن هذا الاشتراك في الاسم لا يوجب اشتراكا في الوصف من كل جهة، بل الاشتراك إنما هو في أصل الصفة فحسب، أما في حقيقة الصفة وكنهها وفي كمالها وتمامها فلا اشتراك ولا تماثل البتة، وكيف يتماثل بصر الخالق الذي كمل في ذاته وصفاته مع بصر المخلوق الذي لا ينفك عنه النقص أبدا.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: “ومن ظن أن صفة خالق السموات والأرض تشبه شيئاً من صفات الخلق فهذا مجنون جاهل ملحد ضال ومن آمن بصفات ربه جل وعلا منزهاً ربه عن تشبيه صفاته بصفات الخلق فهو مؤمن منزه سالم من ورطة التشبيه والتعطيل وهذا التحقيق هو مضمون: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فهذه الآية فيها تعليم عظيم يحل جميع الإشكالات ويجيب عن جميع الأسئلة حول الموضوع. ذلك لأن الله قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
ومعلوم أن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر يتصف بهما جميع الحيوانات فكأن الله يشير للخلق ألاّ ينفوا عنه صفة سمعه وبصره بادعاء أن الحوادث تسمع وتبصر وأن ذلك تشبّه بل عليهم أن يثبتوا له صفة سمعه وبصره على أساس ليس كمثله شيء. فالله جل وعلا له صفات لائقة بكماله وجلاله والمخلوقات لهم صفات مناسبة لحالهم وكل هذا حق ثابت لا شك فيه.
إلاّ أن صفة رب السموات والأرض أعلا وأكمل من أن تشبه صفات المخلوقين، فمن نفى عن الله وصفاً أثبته لنفسه فقد جعل نفسه أعلم بالله من الله، سبحانك هذا بهتان عظيم، ومن ظن أن صفة ربه تشبه شيئاً من صفة الخلق فهذا مجنون ضال ملحد لا عقل له يدخل في قوله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. ومن يسوي ربّ العالمين بغيره فهو مجنون” .
ويقول رحمه الله تعالى كذلك: “ونحن لا نشك أن ما في القرآن حق فلله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان لائقتان بجلاله وكماله. كما أن للمخلوق سمعاً وبصراً حقيقيين مناسبين لحاله من فقره وفنائه وعجزه وبين سمع وبصر الخالق وسمع وبصر المخلوق كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.”( ).