أصبح ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في حديثه عن غربة الإسلام بين أبناء آخر زمن، حقيقة واقعة لا يماري فيها أحد، ودع عنك المنكرات والفواحش التي انتشرت بين المسلمين بكيفية لم يسبق لها مثيل، وانظر فقط إلى المظاهر والحالات التي طوت كل ما كان معهودا من تقاليد المسلمين وتحرجهم من كل عادة لأهل الأديان الأخرى، أو عرف يتميزون به، فبعدما كان ذلك من الأشياء المنبوذة لديهم والتي يتمثل بأنها من فعل اليهود والنصارى، صار اليوم من المألوف والأمور المرغوب فيها.
فالعطلة الأسبوعية صارت هي نصف يوم السبت وكل يوم الأحد، سواء في ذلك القطاعات العامة والقطاعات الخاصة، ولقد تعجب من انعقاد مجلس حكومي والدعوة إليه في يوم الجمعة، وفي الساعة التي تفسخ فيها العقود شرعا، في حين يكون يوم السبت فارغا من العمل ابتداء من الصباح، حتى الإذاعة إنما تأتي فيه بأخبار بائتة، وتكون نشرتها أقصر نشرات الأسبوع ولا تسل عن يوم الأحد فهو يوم غياب مطلقا، لا كلام عليه.
وأقبح ما يتجلى فيه هذا التزلف لليهود والنصارى، حفلات الأعراس، فقد كاد لا يقع احتفال بعرس وزفاف إلا في يوم السبت زعما بأن الذين سيحضرونه، غالبهم من الموظفين، وسيكون ذلك كدعاة لسهرهم (ولا تسل كيف) وعدم استيقاظهم مبكرا من الغد للعمل، فيا أسفي كيف تمكن الشيطان من عقول الناس وصار يتلاعب بهم كما يشاء.
لقد كان الناس يتحرون يوم الخميس لأعراسهم تيمنا بليلة الجمعة، أو يوم الاثنين تبركا بيوم ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا يتبعون اليهود والنصارى، لاعتبار فارغ، في أعظم حدث يكيف حياتهم الشخصية، ويكون له الأثر الفعال في مستقبل بينهم وأسرهم، فشتان بين ما كان يقصده السلف الصالح وما يقصده هذا الخلف الطالح.
ولقد كنت كتبت مقالا في مجلة “لسان الدين” منذ سنين، بعنوان هذا المقال، أخذت فيه على بعض العلماء حمله لوسام أجنبي يسمى الصليب الأكبر، ولم أكن أتوقع أن يحصل هذا من غير متساهل في دينه، ويتعلل برخصة باطلة أو فتوى مردودة، فإذا بي أرى شابا متدينا من أسرة مومنة، امتلك صيدلية فوضع عليها صليبا، وقد كانت في ملك يهودي من قبله سنين عديدة، ولكن من غير صليب.
ثم حضرت جنازة لميت حمل من بلد بعيد على سيارة لنقل الموتى في ملك أحد المعتنين بدينهم والمتعلقين باتباع السنة، فإذا بالسيارة تحمل الشعارين الصليب والهلال، وسألت صاحبها الذي هو سائقها، وكان حاضرا، فقال أنه يحمل الموتى من أهل الدينين، فلذلك صنع ما صنع!
فاستفدت أن الشعور الديني ضعيف في نفوس الناس، ولو ادعوا ما ادعوا، خاصة أمام المصالح المادية التي أصبحت إلها معبودا وعقيدة مقدسة.
ولعل أحدا لا يجهل ما شاع وذاع من هذه الأسماء التي حذفت منها لفظة عبد واقتصر فيها على ثاني المتضايفين كعبد العزيز وعبد الكريم وعبد الغني وما إليها فصارت عزيز وكريم وغني، أنفة من العبودية لله عز وجل، بل لقد قيل لبعضهم فيما حدثني به الثقة لماذا تنادي ابنك غني واسمه عبد الغني! فقال إنني لم اسمه عبد الغني وإنما سميته غني ولماذا يكون عبدا للغني ولا يكون هو غنيا؟..
فانظروا إلا هذه الجهالة التي ربما أدت بصاحبها إلى الكفر والعياذ بالله.
وقد كان لهذا الجهل مفعول رجعي عند بعضهم فأصاب آباءهم المومنين، فتجد الواحد منهم يختصر اسم أبيه الذي نعرفه حق المعرفة فيقول أحمد عزيز يعني ابن عبد العزيز، ومحمد كريم يعني ابن عبد الكريم، وهكذا اضمحل كل ما كان يتوخاه الأسلاف من التبرك بالأسماء الإسلامية وتخير ما وردت السنة بأفضليته منها، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأسماء ما عبد أو حمد) فيا لله من عمى البصيرة!(1)
وعلى ذكر بدعة الأسماء هذه، لا ننسى ما عمت به البلوى من تسمية الأجانب لأشياء خسيسة في نظر الشرع بأسماء شريفة كتسمية البارات بأسماء رجال من أهل الدين والصلاح ولقد قرأت مرة وأنا شاب يافع دون العشرين في ناحية الدار البيضاء على بار اسم بار سيدي مبارك، فأصابني من الحزن والأسف ما جعلني لا أسيغ أكلا ولا شربا أكثر من أسبوع، والآن قد طم السيل فصرنا نسمع بأنواع الخمور تسمى بأسماء مقدسة كخمر سيدي البخاري، أعني حافظ الإسلام وأمير المومنين في الحديث، فليت شعري من الذي أعطى الرخصة بهذه التسمية هل هو مسلم أو يهودي ينتقم من الإسلام؟
وقد نشر في الصحف خبر احتجاج سفارة فرنسا في أحد البلاد الأوربية على تسمية بار باسم رئيس الجمهورية (بومبيدو) فعلى الأقل كان على هؤلاء الذين أعطوا الرخصة بتسمية ذلك النوع من الخمر بسيدي البخاري أن يقتدوا بالفرنسيين في غيرتهم إن لم تحركهم غيرة الإسلام!
وقلت تسمية الأجانب لأسماء خسيسة بأسماء شريفة، وهذا كان فيما مضى، أما الآن فإن المسلمين قد ساروا في هذا السبيل، وأمر تسمية بعض (الأشراف) لأكبر دار من دور الفسق والفجور في طنجة باسم مسجد تاريخي عظيم غير خاف على أحد، وقيل لي أنه لما خوطب في ذلك أجاب بأن الذين رخصوا له أعرف بما يجوز وما لا..!
ولا أكثر من الأمثلة، ولكن مثلا آخر حز في نفسي كثيرا، لا بد من الإشارة إليه ولو باختصار.
وذلك ما وقفت عليه في يومية الحائط لهذه السنة (سنة 1970م) من اعتنائها بذكر أيام (القديسين) من النصارى وأعيادهم، كما تذكر الأعياد الإسلامية والأيام الفاضلة في الملة الإسلامية، وهي بدعة لم يسبق ليومية من اليوميات التي تصدر بالمغرب –فيما أعرف- أن ارتكبتها.
فليت شعري لمن يقدم صاحب اليومية هذه الخدمة؟ أللمسيحيين الأجانب الذين يقطنون في بلادنا، وهم لا يستعملون يوميته قطعا؟ أم إنها خدمة تبشيرية يقوم بها مجانا؟ ونقول مجانا لأننا ما زلنا نحسن به الظن، ونرى أنه مخدوع ومتجاوز لحدود التسامح الديني الذي يسمع به ولا يحققه.
والخلاصة أن الإسلام أصبح غريبا بين المنتمين إليه، وفي عقر داره، بسبب الأعراض عن دراسته والجهل بتعاليمه، وإن المسلمين غلبت عليهم الشهوات وطغى حب المادة في نفوسهم، فصاروا لا يهتمون إلا بما جلب لهم الربح ويحقق لهم المتعة وإن كان في ذلك خواء روحهم وخراب دينهم، وقل منهم من يسأل عن حكم الله فيما يزاوله من الأمور، وقد أجمع علماء الإسلام على أنه لا يحل لامرئ مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، ودليل هذا الإجماع قوله تعالى: “وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً” وفي نظم ابن عاشر، الذي كان يتعلمه أطفال المسلمين قبل أن يتولاهم المعلمون الأجانب والمتخرجون على أيديهم:
ويوقف الأمور حتى يعلما ما الله فيهن به قد حكما
وبهذا صدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء؟ قيل من هم يا رسول الله؟ قال الذين يصلحون إذا فسد الناس”، وفي رواية “الذين يصلحون ما أفسد الناس”.
“على درب الإسلام” الصفحة: 55-61.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- حديث ضعيف؛ يغني عنه حديث: أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن.