مند خمس سنوات أو يزيد، جمعتني جلسة ودية مع بعض الأصدقاء، كنا نتجاذب أطراف الحديث في مواضيع شتى، ثم سرعان ما تركز النقاش حول قضية استأثرت باهتمام جميع الحاضرين، لما تحمله من مغامرات وتشويق وسجال فكري بين من يناصر صاحب القصة ويؤيد طرحه، وبين من يعارضه ويسفه رأيه، ويعتبر كل ما قاله مجرد خرافات لا تستسيغها عقلية المسلم الموحد الذي ذاق طعم الإيمان ورضي بالله ربا والإسلام دينا وبنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا.
طبعا فقد كنت شخصيا من أشد المناوئين، الذي لم يدخر جهدا في التعقيب والرد على كل ما تفوه به بطل هذا الحوار من ترهات هي أقرب إلى الهذيان والأسطورة، لكن للأسف فإن صاحبنا كان ينظر لنفسه نظرة ملؤها الإعجاب والزهو والافتخار، وهو الجسور الشجاع المقدام الذي لا يتهيب الأخطار والصعاب، يقتحم المقابر والمغارات والأماكن الخربة في جنح الظلام، يعيث فيها حفرا وتخريبا وتنقيبا دون ملل أو كلل، غير آبه بحجم المخاطر التي قد تعترضه، يصاحب (الطلبة) الذين لهم القدرة على التواصل مع الجن والاستعانة بهم في استخراج الكنوز.
بعد أخد ورد وحوار ساخن، وفي ختام المجلس اعترف ذلك الصديق العزيز، بأنه لم يجن من وراء مغامراته إلا السراب وضياع الأعمار، بل إنه صرح في حسرة ومرارة أنه تعرض لعمليات نصب واحتيال متكررة، ناهيك عن استغلال سيارته في التنقلات، غير أن الطمع والأماني أغرياه بالتعلق بأوهام هي أوهى من خيوط العنكبوت.
لو أن خبر هذه الحكاية اقتصر على هذا الشخص وحده، لهان الخطب وفوضت الأمر إلى الله سبحانه وتعالى أن يبصره بالحقيقة، لكن حجم ضحايا عصابات الباحثين عن الكنوز المدفونة يزداد يوما بعد يوم، فلا يمر مجلس أو حوار، دون أن نسمع عن صيد آخر وقع في شبكة الأخطبوط التي ينسجها أولئك المشعوذون وأعوانهم، وأضحت أكاذيبهم وحيلهم تنطلي على كثير من أنصاف المثقفين وأشباه السياسيين فضلا عن السذج الأميين.
لهذه الأسباب وغيرها، قررت أن أخوض غمار الكتابة في هذا الموضوع، فضحا وكشفا لتلبيسات تلك العصابة الإجرامية التي تتستر أحيانا بالدين، ولن يتأتى ذلك إلا بنقض شبهاتهم وأوهامهم.
ويشهد الله أنني ما تكلمت عنهم من فراغ أو بناء على أحكام مسبقة استقيتها من جرائد أو من كلام الناس، بل إنني سأتحدث عنهم من منظور قلب محترق يعتصر كمدا على ما يشاهده بأم عينيه ويسمع بأذنيه يوميا من ضحايا جدد يتساقطون في شراك هؤلاء المشعوذين والدجاجلة.
وقفات مع شبهاتهم وأوهامهم
الشبهة الأولى: أن القرآن يؤكد أن الكنوز والدفائن حقيقة ثابتة وليست بوهم.
ويبرهنون على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا﴾ [الكهف:86]، مما يعني أن الله أثبت أنه يوجد كنز مدفون لغلامين، وبالتالي لا حجة لمن أنكر وجود المال وغيره في بواطن الأرض.
والجواب عن هذه الشبهة أن دلالة الآية على نقيض قولهم وأقوى منها على قولهم، فإنها تدل على أن موسى والخضر عليهما السلام، لم يحترفا مهنة البحث عن الكنوز، فلم يكن ديدنهما نبش الحفر والتستر في ظلمات الليل كالخفافيش، ولم يكونا يستحضران البخور والقربان لفك الطلاسم السحرية كما هو فعل الحمقى والمغفلين ممن يلهثون وراء الأوهام.
ولله در ابن خلدون فقد أفرد فصلا في مقدمته المشهورة هتك فيه أستارهم وفضح أخبارهم مند أزمان بعيدة، ولكنهم قوم لا يقرؤون التاريخ، ولا يتعظون بدروسه وعبره “…..فتولع كثير من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار والتستر به بظلمات الليل مخافة الرقباء وعيون أهل الدول، فإذا لم يعثروا على شيء ردوا ذلك إلى الجهل بالطلسم الذي ختم به على ذلك المال، يخادعون به أنفسهم على إخفاق مطامعهم، والذي يحمل على ذلك في الغالب زيادة على ضعف العقل، إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة والفلح والصناعة، فيطلبونه بالوجوه المنحرفة وعلى غير المجرى الطبيعي، من هذا وأمثاله عجزا عن السعي في المكاسب وركونا إلى تناول الرزق من غير تعب ونصب في تحصيله واكتسابه…”.
(الفصل الرابع في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي مقدمة ابن خلدون دار القلم بيروت ص385).
الشبهة الثانية: أن الرسول عليه السلام يثبت حقيقة أن الأموال مختزنة تحت الأرض
ويحتجون بما يرويه الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «العجماء جبار وفي الركاز الخمس» متفق عليه، فيقال إن هذه الشبهة باطلة لما يلي:
أولا: نحن لا ننفي أن الأمم السالفة كانت تختزن أموالها وكنوزها تحت الأرض، ونحن بدورنا لا ننكر صحة هذا الحديث وغيره الذي يشير إلى دفين الجاهلية الذي هو الركاز، إنما الذي نستنكره عليهم هو ترك العمل والكسب بالطرق المشروعة.
يقول ابن خلدون في معرض رده على مثل هذا الاستدلال: “…واعلم إن الكنوز وإن كانت توجد لكنها في حكم الناذر وعلى وجه الاتفاق لا على وجه القصد إليها، وليس ذلك بأمر تعم به البلوى حتى يدخر الناس أموالهم تحت الأرض، ويختمون عليها بالطلاسم لا في القديم والحديث، والركاز الذي ورد في الحديث وفرضه الفقهاء وهو دفين الجاهلية، إنما يوجد بالعثور والاتفاق لا بالقصد والطلب…” المرجع نفسه ص:387.
ثانيا: نسائل أولئك الخرافيين، لماذا تقتصرون في استدلالكم على هذا الحديث، وفي المقابل تتجاهلون وتغضون الطرف عن أحاديث كثيرة تفضحكم وتكشف زيفكم، سيما تلك الأحاديث النبوية التي تحض على العمل والكسب الحلال.
الشبهة الثالثة: أن الصحابة وجدوا كنوزا تعود إلى عصور قديمة فاستخرجوها
ويحتجون بما ذكره الإمام ابن قدامة في المغني أن عليا بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضوان الله عليهم قد قسموا الكنوز في عهدهم، ولولا خشية الإطالة لسردت الآثار التي يتمسحون بها لترويح بضاعة البحث عن الكنوز.
والجواب عن هذه الشبهة يقال بأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يكونوا كما يتصورهم بعض الجهلة، دراويش صوفية رهبان يعتكفون في الصوامع والمساجد، يعتزلون الأسواق ومعارك الحياة، يقضون سحابة أيامهم ولياليهم بحثا عن الكنوز المدفونة، ولم يكونوا عالة على أنفسهم وأسرهم، بل زاحموا اليهود في أسواقهم، وبزوهم في ميادينهم، فلما ماتوا خلف بعضهم لأولادهم ثروات، تعفيهم عن ذل السؤال، وتحول بينهم وبين تكفف أيدي الناس. فأين هؤلاء الصحب الكرام الأماجد من فعل أولئك الأدعياء (الطلبة) حملة القرآن المرتزقة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل عن طريق إيهام الناس بأنهم يمتلكون مفاتيح وأسرار وخرائط وإشارات ورموز الكنوز والدفائن.
وفي أمثال هؤلاء يقول ابن خلدون ردا عليهم: “…ونجد كثيرا من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطبيعي وأسبابه، يتقربون إلى أهل الدنيا بالأوراق المتحزمة الحواشي، إما بخطوط عجمية أو بما ترجم من خطوط أهل الدفائن، بإعطاء الأمارات عليها في أماكنها، يبتغون بذلك الرزق منهم….”. نفس المرجع السابق ص:385.
نماذج من انحرافاتهم العقدية
عندما يعتقد الإنسان الباحث عن سراب الكنوز، بوجود مؤثر غير الله في الكون من الجن أو الأشباح أو الأرواح، يصبح عقله مستعدا لقبول كل انحراف عقدي وتصديق كل خرافة، وحالما يوشك المشعوذ الدجال أن تفتضح أوراقه، ينتقل إلى أسلوب آخر يموه به ألاعيبه وحيله، فيدعي زورا وبهتانا أن الكنز مختوم عليه بطلاسم سحرية لن يفض خاتمها إلا باقتفاء الطرق الشركية التالية:
الانحراف العقدي الأول: استحضار البخور المناسب بهدف استدعاء الجن
وذلك بصرف عمار المكان قبل الشروع في العمل لتأتي الأرواح الخبيثة المكلفة بإنجاز العمل أن تحضر، لكي تحدد موقع الكنز، ومعلوم بداهة أن استعمال البخور يندرج ضمن طقوس السحرة والكهنة، كما أن الاتصال بالجن منهي عنه شرعا من حيث الجملة، لما فيه من مخالفات شرعية قد تصل إلى حد الشرك بالله تعالى، هذا دون أن نتحدث عن كذبهم الأصلع الصراح على الضحايا واختلاس أموالهم بزعمهم شراء البخور.
الانحراف العقدي الثاني: قراءة شيء من الطلاسم والتعاويذ، وحتى بعض آيات القرآن الكريم
لاشك أن تلاوة القرآن من طرف هؤلاء المشعوذين، وخلطه بتلك الطلاسم غير المفهومة، يعتبر من كبائر المنكرات لأنه استخفاف بكتاب الله العزيز، وامتهان له ومناقضة لما جاء له، فإن الله أنزله ليهدي الناس للتي هي أقوم ويخرجهم من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، وهؤلاء الدجاجلة اتخذوه تمائم وتعاويذ لاستخراج الكنوز.
الانحراف العقدي الثالث: ادعاؤهم أن الجن يعلم الغيب
مما يسهل عليه معرفة ما تختزنه الأرض من كنوز ودفائن، والرد على هذه الأكاذيب من وجهين:
الوجه الأول: أن الغيب لا يعلمه إلا الله، قال تعالى: ﴿قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله﴾ [النمل: 65]، ﴿وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو﴾ [الأنعام :59]، ﴿عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول﴾ [الجن :26-27]، حتى النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله عن طريق الوحي، ولهذا خاطبه بقوله: ﴿قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير مبين وبشير لقوم يؤمنون﴾ [الأعراف: 188] .
الوجه الثاني: أن الجن الذي يستعين بهم أولئك الباحثون عن الكنوز من السحرة والمشعوذين، ليست لهم قدرة على معرفة الغيب، وقد ذكر القرآن عن جن سليمان أنهم لم يعلموا بموت سليمان عليه السلام ﴿فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين﴾ كما أن الإدعاء بأن للجن قدرة على استخراج الكنوز أمر يكذبه الواقع، فبعض هؤلاء السحرة والمشعوذين يتعرضون للاعتقالات، وما أغنتهم هذه الجن عن الملاحقات الأمنية شيئا ..
الانحراف العقدي الرابع: ذبحهم للحيوانات والأطفال بصفات معينة تقربا للجن
ومما لا يخفى على القارئ الكريم، أن هذا الصنيع من عادة المشركين في كل أمة أن يتقربوا بذبائحهم إلى آلهتهم وأصنامهم، فأبطل الإسلام ذلك وحرم ما ﴿أهل لغير الله به﴾ [المائدة: 3]، أي ما ذكر عليه اسم غير الله من صنم أو جن أو نحوه، ولهذا أمر الله أن يجعل صلاته ونحره لله ﴿فصل لربك وانحر﴾ [الكوثر ]، ﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له﴾ [الأنعام :162-163].
أما سرقة الأطفال “الزوهريين” والاستعانة بهم في استخراج الكنوز على اعتبار أنهم شرط ضروري لكي تنفتح الأرض وتصعد الخزينة من الأعماق، والأخطر أن الجن حسب اعتقادهم الفاسد قد يطلب دم “الزوهري” من المناطق التي يشتهيها، وغالبا ما تكون الرقبة أو الفرج أو الذراع مما يعني حتما ذبح ذلك الطفل، ولاشك أن هذا العمل ذنب شنيع ومنكر فضيع، تستنكره الفطر السليمة.
مقترحات عملية للحد من ظاهرة الباحثين عن الكنوز والدفائن
أولا: نناشد مختلف الوسائل الإعلامية، على اعتبار أن لها تأثيرا كبيرا في تشكيل المعتقدات وتوجيه السلوكيات، أن تسهم بنصيب كبير في فضح كل مشعوذ أو ساحر يشوش على عقيدة التوحيد، وإن كنت لا أعقد عليها آمالا كبيرة، لأن أغلب الإعلاميين الذين يتعرضون لمناقشة مثل هذه المواضيع، يتناولونها كأخبار عاجلة عابرة، وبرؤية سطحية هامشية لا تنفد إلى عمق الإشكال، بل إن بعض المواقع الإلكترونية باتت تنقل على مدار الساعة كل مستجد غير معروف في هذا الصدد، تشرح رموز وطلاسم قد يصادفها الحفارون في طريق نبشهم، تضع مفاتيح خرائط معقدة تقود إلى أماكن الدفين، وبذلك تسهم هذه المواقع في الترويج لبضاعة أولئك السحرة والمشعوذين، عبر نشر أكاذيبهم والدعاية المجانية لأرقام هواتفهم، وبالتالي كسب المزيد من الضحايا السذج المتعاطفين مع خزعبلاتهم، وهذا أمر بديهي ففاقد الشيء لا يعطيه، ما دام أصحاب هذه المنتديات أنفسهم -إلا من رحم ربك- لا يخضعون في تكوينهم الإعلامي لدورات تدريبية تعرفهم عقيدة ربهم وسنة نبيهم ومنهج سلفهم الصالح .
ثانيا: نسجل بكل حزن وأسى صمت وتجاهل وتواطؤ القانون المغربي مع ظاهرة السحرة والمشعوذين الباحثين عن الكنوز المدفونة، وعوض أن يتخذ ضدهم إجراءات صارمة لردعهم وزجرهم والحيلولة بينهم وبين إفساد عقائد الناس لا زال لحد الآن يكتفي بموقف المتفرج والمراقبة من بعيد، وإن سن بعض القوانين فهي قوانين محتشمة لا ترقى إلى حجم الجرائم التي يرتكبونها.
ثالثا: نهيب بكل العلماء والدعاة والخطباء وطلبة العلم وكل من يحمل مسؤولية تدبير الشأن الديني، أن يجندوا كل طاقاتهم ويكثفوا محاضراتهم لتحقيق الحصانة الفكرية والعلمية في المجتمع من شتى تمظهرات الزيغ والانحراف العقدي، وذلك بهتك أستار أولئك الباحثين عن الكنوز، خاصة الذين يستعملون الطرق الشركية.
ومن أساليب التصدي والمواجهة نشر عقيدة التوحيد، من خلال القصص القرآني وضرب الأمثال، وربط القلوب بالله سبحانه وتعالى بوصفه المنفرد بالنفع والضر والخلق والتدبير، والتأكيد على عجز المخلوقين من الإنس والجن وضعفهم، وأنهم لا يملكون لأنفسهم فضلا عن غيرهم ضرا ولا نفعا.
رابعا: نؤكد على عموم المواطنين المغاربة، سيما أولئك الشباب الذين حالت بينهم الظروف الاقتصادية وبين تحقيق آمالهم وأحلامهم المشروعة، البعد عن أولئك المشعوذين الباحثين عن الكنوز المدفونة ومقاطعتهم، وأن يفرغوا كل طاقاتهم سعيا في الأرض وطلبا للرزق ﴿فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور﴾ [الملك :15]، فطلب الرزق في مظانه المشروعة، شاغل عن الانجراف مع أوهام اللاهثين وراء السراب.
إن هؤلاء السحرة والمشعوذين الباحثين عن الكنوز والدفين، جمهورهم الساحق من الشباب الذي تحتاج بلادهم إلى مشاركتهم في صحوتها العلمية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، إنها طاقات معطلة بسبب الفساد العقدي الذي ينخر عقليتها، وبالتالي فإن أية تنمية اقتصادية لا يكون منطلقها إصلاح مختلف مظاهر الاختلالات والانحرافات العقدية سيكون مآلها الفشل والبوار.