الأصل في دين الإسلام أنه دينُ تجمّعٍ وألفة، لا دينَ عزلةٍ وفرارٍ من تكاليف الحياة، ولم يأت القرآن ليدعو المسلمين إلى الانقطاع في دَيْر، أو كنيسة، أو العبادة في صومعة، بعيداً عن مشاكل الحياة ومتطلباتها. بل إنّ نزعة التعرّف إلى الناس والاختلاط بهم أصيلة في تعاليم هذا الدين.
فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ الفضل لمن خالط الآخرين وتعرَّف عليهم ولم يتقوقع على نفسه، وذلك في قوله: »المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم«[1]–[2].
وما المـرءُ إلا بإخـوانهِ | كما يُقبض الكـفُّ بالمعصمِ | |
ولا خيرَ في الكفِّ مقطوعة | ولا خيرَ في الساعد الأجْذَمِ[3] |
والحقيقة أنَّ أدب التعامل مع الآخرين لـه مفهوم شامل، يتسع اتساع العلاقات الإنسانية بين بني البشر. والروابط التي تجمع بين الناس كثيرة، فمن رابطة الدم، إلى رابطة الفكرة والمبدأ، ورابطة العمل والوظيفة، ورابطة الصداقة والصحبة، ورابطة الجنس والعِـرْق، والرابطة التجارية والاقتصادية، ورابطة العقيدة التي تُعدّ من أقوى الروابط وأمتنها وأدومها نفعاً. ولكن قوّة رابطة العقيدة، لا تعني أنَّ أدب التعامل مع الآخرين لا يدور إلا في نطاقها، ولا يشمل التعامل مع أصحاب العقائد الأخرى من غير المسلمين، بل إنَّ أدب التعامل يتسع ليشمل الإنسانية كلَّها.
ولا بدّ لنا في هذا السياق من التفريق بين أدب التعامل مع الآخرين وبين الولاء لهم. فإن الولاء هو المحبة والنصرة[4] وهذه لا تكون إلا بين المسلمين. ولكن التبرؤ من أعداء الله لا يعني الإساءة في معاملتهم، أو أكل حقوقهم، أو سبّهم والفحش معهم في القول، أو عدم ملاطفتهم. فالولاء “هو سلوك الباطن، والمحبة القلبية، وما يترتب على ذلك من نصرة وإعانة. أما التعامل الحسن؛ فهو سلوك الجوارح والعلاقة الظاهرية.
والأول قد حُصر على المسلمين، أما الثاني فهو مع المسلمين ومع غيرهم”[5]. ولعلّ ما ورد في سورة الممتحنة، هو من أوضح الآيات التي تميز بين الولاء وبين البرّ وحُسن التعامل، يقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[6].
فقضية التعامل مع الآخرين هي قضية بالغة الأهمية والخطورة، وقد جعل الإسلام الالتزام بالدين في قسمٍ كبيرٍ منه، متوقفٌ على الأدب وحسن المعاملة. ومن منطلق هذه الأهمية، جاء القرآن الكريم ليضع لنا المناهج القويمة والأسس السليمة للتعامل مع الآخرين باعتباره موضوعاً أساسياً من موضوعات هذا الدين.
فقد أصّل القرآن الكريم لأدب التعامل مع الآخرين وأقامه على مجموعة من القواعد والفنون، التي نضمن من خلالها نتائج إيجابية وحسنة في العلاقات الإنسانية، وهذه القواعد والفنون كثيرة ومتنوعة، وليس من موضوعنا الحديث فيها، غير أنّ هناك قاعدة قرآنية تُعدُّ أصلاً تتفرع عنه كل قواعد التعامل مع الآخرين، هذه القاعدة هي «حُسْنُ الخُلُق»، إذْ لا نجاح ولا توفيق في التعامل مع الآخرين دون هذا الأصل المتين. ومن هنا فقد مدح الله تعالى نبيه بهذه الصفة، فقال عنه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[7]، ووصفته عائشة رضي الله عنها بأنه »كان خلقه القرآن«[8].
فحُسْنُ الخُلُق أصْلٌ في أدب التعامل، وتتفرع عنه سلوكيات كثيرة. ويتحدث الإمام الغزالي عن أهم هذه السلوكيات المترتبة على حُسن الخُلُق، فيقول بأن من صفات الشخص الذي يوصف بحسن الخُلُق أنه “يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الإصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، بَرّاً وصولاً، وقوراً صبوراً، شكوراً رضيّاً، حليماً رفيقاً، عفيفاً شفيقاً، لا لعَّاناً ولا سبّاباً، ولا نمّاماً ولا مغتاباً، ولا عجولاً، ولا حقوداً، ولا بخيلاً ولا حسوداً، بشّاشاً هشّاشاً، يحب في الله، ويبغض في الله، ويرضى في الله، ويغضب في الله، فهذا هو حُسن الخلق”[9].
ويُنبِّه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أهميَّة حُسْن الخُلُق في التعامل مع الآخرين، فيقول: «إنَّكم لا تَسَعُونَ النَّاسَ بأموالِكم، ولكنْ يَسَعُهُم منْكم بَسْطُ الوجْهِ وحُسْنُ الخُلُق»[10]. وفي هذا الحديث الشريف عِظَةٌ نافعة وحِكمة بالغة، فإنَّ الإنسان مهما بَذَل من المال لا يحظى برضى الناس، ثم إنَّ المال ليس في مقدور كلّ إنسان، ولكن في مقدور كلِّ واحدٍ أنْ يُحسن خُلُقه، ويلين جانبه، ويخفض جناحه، ويبسط وجهه. وهذا الأدب في التعامل مع الآخرين، خيرُ مُعينٍ على تذليل صعوبات الحياة، وتخفيف آلامها، لأنه يبعث السرور في النفس، وبه تطيب المعاشرة وتصفو المعيشة.
كما يشير القرآن الكريم إلى مبدأ مهم في التعامل مع الآخرين. فالدِّينُ في المنظور القرآني ليس صلاةً وصياماً في جهة، وجلافةً وجَفَاءً في التعامل مع الناس في الجهة الأخرى، بل هو وِحْدَةٌ متكاملة يرتبط فيها الجانب الإيماني بالجانب العَملي في الحياة. قال تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾[11].
فهذه الآية تشير إلى ملامح الشخصية الإسلامية التي ترتكز على جانبين اثنين: جانب الفكر والإيمان وأداء العبادات، وجانب الممارسة في السلوك الذاتي وفي العلاقة مع الناس ومع المواقف الصعبة في الحياة. نلمح ذلك من خلال تحديد طبيعة البِرّ الذي يعني التوسُّع في الخير والإحسان، كما يذكر أهل اللغة[12]، لأنه يمثِّل سرّ الشخصيّة لدى المؤمن في آفاق التصوّر وميدان التعامل. فبالإيمان والعمل تتكامل الشخصية وتنطلق.
وبصورة عامة فإن الأسلوب الإسلامي في التعامل مع الناس هو الأسلوب الأمثل والأحسن، وهو الأسلوب الذي يعود بانعكاسات إيجابية على العلاقات الإنسانية. ولا يزال المسلم الحق الملتزم بدينه، المحافظ على أخلاقه الإسلامية، شامةً بين الناس وقدوة حسنة لهم، يحبه كلُّ من يخالطه، ويُسَرُّ لـه كل من يجالسه. تخلُّقه بآداب الإسلام ومكارم الأخلاق جعل منه نموذجاً حياً للشخصية الاجتماعية الرّاقية المهذبة النقية.
وما انتشار الإسلام في جميع أنحاء المعمورة إلا دليلٌ واضحٌ على انعكاس الأخلاق الإسلامية على العلاقات في المجتمعات الإنسانية، حتى إنَّ الذين دخلوا في هذا الدين تأثّراً بهذه الأخلاق، يتجاوز عددهم أضعاف من دخلوه عن طريق السيف. بل إنّ السيف –في كثير من الأحيان- لم يكن إلا لإزالة العقبات التي تحول بين الناس والالتقاء مع صفاء الإسلام وسماحة أخلاقه، وما أنْ تضع الحرب أوزارها، ويتعامل المسلمون مع أعدائهم، وتنساب العلاقات فيما بينهم، حتى تبهرهم عظمة هذا الدين، وسُموِّ أخلاقه، فيتحولوا من أعداء محاربين للإسلام وأهله، إلى مناصرين للحق مدافعين عنه.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.
——————————————————-
[1] البيهقي: السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب رقم 2، ج10، ص89.
[2] انظر: الغزالي، محمد: خلق المسلم، ص172.
[3] البيتان بغير نسبة في: الأبشهي، شهاب الدين محمد بن أحمد: المستطرف في كل فن مستظرف، وبهامشه “ثمرات الأوراق في المحاضرات” لابن حجة الحموي، ج1، ص119.
[4] انظر معنى الولاء في: ابن عبد الوهاب، سليمان بن عبد الله بن محمد: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص346.
[5] الحمادي، علي: أمسك عليك هذا، ص32.
[6] الممتحنة: (8، 9).
[7] القلم:4.
[8] رواه أحمد. انظر: المسند، رقم 24645، ج6، ص91.
[9] الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد: إحياء علوم الدين، بذيله كتاب المغني عن الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الأحياء من الأخبار لزين الدين العراقي، تحقيق: أبو حفص سيد بن إبراهيم بن عمران، ج3، ص82.
[10] رواه الحاكم وصححه. انظر: المستدرك، باب الترغيب من بلوغ المرام، حديث رقم 428، ج1، ص212.
[11] سورة البقرة: الآية 177.
[12] انظر: الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد: مفردات ألفاظ القرآن، ص 40.