علوم الشريعة أعلى وأغلى ما يطلب؛ من خلالها يعرف العبد ربه ورسوله ودينه، ويعرف غاية وجوده، وما يجب أن تكون عليه علاقته بالله، وعلاقته بأخيه الإنسان وعلاقته بالكون عامة.
وقد عرف التعليم الذي يعتني بهذا العلم باسم “التعليم العتيق”؛ المختص في دراسة العلوم التي تخدم الكتاب والسنة. وهو غير مهتم بالتعليم والتوعية فحسب؛ بل تجد إلى جانب التعليم: التربية والتزكية؛ وتحرير الضمائر؛ وتطهير النفوس وبناءها على قيم هذين المصدرين اللذين يعتبران مصدرا للمعرفة والتربية والثقافة والأخلاق، كما هما مصدرا التشريع.
وما فتئ “التعليم العتيق” منذ نشأته يسير وفق المنهج المرسوم ويؤتي الثمرة التي من أجلها أنشئ؛ إلى أن مرت بالأمة فترات حالكة أصابت المسلمين في مختلف مناحي الحياة؛ وكان للتعليم نصيبه من ذلك؛ وكاد يحول عن مقاصده ومراميه، ووضعت في طريقه عراقيل؛ وإن لم تؤد إلى وأده والقضاء عليه؛ فإنها أثرت على منهجه وسيره.
ولأني أحد أبناء هاته المدارس العتيقة؛ فإني أرى أن من المهم النقد والتقييم؛ لا الاقتصار على المدح والافتخار؛ فهو اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى، لتدارس ما يواجهه من عقبات، وما يصيبه من عثرات، في ضوء منهج واضح ومدروس.
وتقييمه من قبل القييمن عليه هو الذي يمكن أن يحقق معايير التغيير والإصلاح، ويمنح الاطمئنان وقوة العزيمة على الانعتاق من بعض سلبياته وإصلاحها.
وهذا النقد؛ لا يعني الإلغاء لإنجازاته وفضله وكسبه الطيب، واختزال تاريخه في عمل خاطئ أو موقف عاجز متخاذل، والحكم عليه من خلاله، وإنما يعني التوازن، وضبط النسب، وإعطاء كل شيء حقه من الحكم، صوابا أو خطأ؛ لتقديم هذا الرصيد من تقويم الخطأ والصواب للقادمين على الطريق من حملة الدين.
وأهل التعليم العتيق ليسوا فوق مرتبة الصحابة الذين بين القرآن خطأهم، وهم في أعلى مراتب الجهاد، وأشد مراحل الهزيمة في أحد، والنصر في بدر، في آيات تتلى: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾[آل عمران:163] ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران:150].. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال:1].. ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال:68].
وما ادعى أحد بأن ذلك التقييم والتوجيه وبيان مواطن الخلل كان سبيل الأعداء إليهم؛ لأنهم كانوا يدركون أن ذلك سبيلهم إلى الأعداء في الجولات القادمة.
والانغلاق على الذات وعن الآخر، وحماية الضعف والعجز، من أبرز المشاكل التي تواجه التعليم العتيق، وكذلك وصول بعض غير المؤهلين إلى مواقع حساسة؛ لوضع النظم والبرامج؛ فارتبطت المسألة بالمنصب أكثر من ارتباطها بالعلم.
وقد انحرفت غالب المناهج في التعليم العتيق عن إدراك المقاصد وتحقيق الأهداف، إلى استنزاف الطاقة في الوسائل (علوم الآلة)؛ دون تسخيرها لما وضعت له، وتعمَّق أو تغلّق كثير من الطلبة في الحواشي وحشروا عقولهم ومواهبهم فيها وأسرفوا في تحليلها وفسخ عباراتها؛ وما أعطوا ولا عشر معشار ذلك للقرآن الكريم الذي هو أحق وأولى بالتدبر والتحليل، ودخل كثير من هؤلاء في أنفاق مظلمة يسودها عمى الألوان؛ يدورون في قطب الرحى؛ من حاشية إلى حاشية، ومن تعليق إلى تغليق.
ووجدت مناهج التعليم التغريبية سبيلها للذيوع والانتشار؛ فزاحمته وغلبته وما هي بالند له؛ فاستحوذت على أكثر الوقت والاهتمام؛ كعادة جلد الفاجر وعجز الثقة؛ وتم الإقبال عليها من أجل المعاش «الوظيفة».
والمطلوب تظافر جهود قيمي وطلبة التعليم العتيق لدراسة ماضيه، واستشراف مستقبله، واكتشاف علله، وجوانب قوته ونهوضه، وأسباب ضعفه ومكامن الخلل فيه، والنظر في نتائجه؛ انطلاقا من الواقع بكل إيجابياته وسلبياته، ومحاولة وضع مسيرته في موقعها المناسب من مسيرة الأمة، وبناء الخطة المستقبلية لهذا التعليم؛ ودراسة الاحتمالات والتداعيات الممكنة؛ والتعرف على الأولويات، والنظر في القيمة والقامة؛ كوعاء حركة وقيمة إنجاز في الوقت نفسه، وعدم خلط الأهداف بالوسائل، والإمكانات بالأمنيات، والحماس بالاختصاص، والإحساس بالإدراك، وتجنب عثراته، والتخلص من كل ما يمكن أن يؤدي به إلى الانطفاء، الذي يبعثر النهضة، ويعطل المسيرة.
كما على الغيورين عليه: أن يأخذوا حذرهم ويستشرفوا مستقبلهم؛ ويقاوموا المناهج الدخيلة التي تقوم بتذويب الأجيال، وأن لا يبقوا التعليم العتيق جسما غريبا في وطنه وبين أهله.
وليست الخشية على اندثار هذا التعليم؛ إنما الخشية كل الخشية على إلحاق مزيد من الضرر بمناهجه واستلاب أصحابه.
والقضية مرتبطة بطلبة هذا التعليم والقائمين عليه، ومدى إدراكهم لرسالتهم ووظيفتهم؛ وأن يكونوا في مستوى المواجهة بمختلف الوسائل؛ ليصبحوا قادرين وفاعلين في كل الظروف، ولا يكونوا كلا على أنفسهم وتعليمهم ومجتمعهم وأمتهم وانتمائهم، ويوجِّهوا ولا يوجَّهوا. ولا يغيروا في النظم والبرامج مقابل المعونة بفتاتات؛ لا تفي بالحد الأدنى من حاجيات هذا التعليم.
ويتأكد دور طلبته والقائمين عليه في الفاعلية أكثر فأكثر، في مرحلة تحول العالم من الجغرافيا السياسية إلى الجغرافيا الثقافية والتوجه نحو العولمة وصراع الثقافات، وما يمكن أن يكون من دور لهؤلاء كمواقع متقدمة في المجتمع يفترض أن تكون لها الريادة في التنظير والتوجيه؛ لأنهم أهل الدين وحملته والأمناء على الأمة.
وقد تأثر هذا التعليم اليوم إيجابا وسلبا لما ربط بالشواهد؛ وغدا الرائد بين أهل هذا التعليم اليوم من يحصل على وظيفة مرموقة؛ وبالأمس القريب كان الرائد من يثبت ذاته بعلمه على محك الواقع، ومطلوب أن يحصل طلبة التعليم العتيق على الشواهد العليا في مختلف التخصصات؛ باعتبارها المنفذ الوحيد للتأثير في صناعة القرار؛ لكن دون ربط طلب العلم بالوظيفة واتخاذها المقصد والغاية؛ وهي ستأتيهم قسرا وهم في عقر دارهم؛ إن أتقنوا وتمكنوا.
وقد بدأنا نلحظ هذا التأثير بما يمليه المنهج الجديد من امتحانات وتعقيدات؛ تعوق التعليم وتقيده وتفسد الهدف منه أكثر مما تنظمه. وغدا لدى الكثير من الطلبة الغاية من الدراسة الإجابة على أسئلة الامتحان، والهدف النهائي: الشهادة الدراسية والوظيفية والمستوى المعيشي والاجتماعي.
وأصبحت مراحل التعليم العتيق كنظيره العام: (ابتدائي، إعدادي، ثانوي، نهائي)= وظيفة وخمول.
وغدا شبح الامتحان هو مصدر قلق الطالب أكثر من العلم، ملازم لهم من بداية الدراسة إلى نهايتها، وهو مخيم على واقع الدراسة في محتواها وتنظيمها، وقد احتل مكان الهدف الأول إلا من رحم الله. وصير المدرسة العتيقة إلى ميدان قفز للحواجز المفتعلة للحصول على الميزة في الشواهد؛ لضمان الوظيفة؛ ولم يعد مستوى الطالب يقاس بحسب محاولته وجهده وأثره، وإنما يعتمد القياس أكثر على مقارنة نقاطه ودرجاته.
وما على القائمين على هذا التعليم إلا أن يستوعبوا المشاكل، سواء في ذلك الداخل منها، أو على مستوى المحاولات الخارجية الرامية إلى طمس الهوية وممارسة عملية التذويب، سياسة وثقافة وحضارة..؛ باسم التنظيم والتطوير والدعم. وأن لا يغفلوا عن الأساليب السياسية والثقافية المستمرة في طمس الهوية، المتمثلة بسياسة: «اقطع الشجرة بأحد جذوعها».
وأعتقد أن مثل هذه النظرات النقدية القويمة، سواء اتفقنا أو اختلفنا حول بعض جوانبها، تمثل ظاهرة صحية، وتشكل علامات مضيئة على الطريق؛ فنستفيد من الخطأ لنتجنبه، كما نستفيد من الصواب لتلمسه؛ خاصة وأن أخطاءنا تتكرر كثيرا.
والبعث والإحياء للتعليم العتيق، الذي يسوده التقليد والجمود على مستوى الداخل، ومحاولات التغريب والخروج عن منظومته المعرفية وأصوله الحضارية على مستوى الخارج، لا يكون إلا بدراسة مقننة محكمة متقنة توضع فيها المناهج والبرامج بما يحافظ على أصالة الأصل مع ربطه بروح العصر؛ لمعايرة الواقع وأداء الدور المطلوب؛ بحيث يؤهل طالب التعليم العتيق؛ للنظر فيما يستجد من حوادث ومشاكل، ويشارك في صنع القرار؛ فيتخرج من هذا التعليم الربانيون والمثقفون والسياسيون ومختلف الشرائح …؛ ليواجهوا الأطروحات الغريبة والوافدة من خارج الأمة، ويؤدوا رسالة الله في الأرض على أكمل وجه.