قيل إن مصدر كلمة “الصوفية” هي اشتقاق منسوب إلى الصفاء، وقيل بل لها علاقة بأصحاب الصُّفة، وقيل على الغالب أنها أطلقت على طائفة اشتهرت بلبس الصوف الخشن كدلالة رمزية على الزهد والورع والإعراض عن الدنيا وما جاورها من الطيب الحلال، وسواء كان هذا أم ذلك على المرجوح، أو استعاض القوم عند المواجهة بتبني المفاهيم النصية كالتزكية والإحسان والمجاهدة والتربية والسلوك، فلا بأس ما دام الدليل على هذا مأخوذ من علم الشريعة هذه المرة؛ فلا مشاحة في الاصطلاح، والاختلاف اختلاف تنوع لا تضاد، والمسائل الذوقية من غنى الفرع الذي لا يمكن أن يعود على الأصل بالهدم والنقض، وهلم جرا من المسلمات المتفلتة من عقال علم الباطن، وسراب الوارد المنامي، وعجيب القصص الخرافي والكرامات الغريبة، التي هي حقا وصدقا الفيصل الحاسم الذي إليه يجب الرجوع لمعرفة هل يمكن الكلام عن قاعدة لا مشاحة في الاصطلاح، وإن الاختلاف بين الاتباع وأتباع الابتداع، هو من باب التنوع أو التضاد، وأن الأحوال الذوقية وشطحاتها الراعنة هي حقا من باب الفرع الذي لا يفسد شططه للأصل قضية؟
بيد أن رجوعنا هذا له كلفة ومشقة، وأين لنا ذلك الوسع الذي بمقدوره أن يطلع على هذا الزخم، وأن يستحمل ثقل هذه التركة الموبوءة الضاربة في الطول والعرض والعمق من القصص والكرامات والمنامات والغيبيات، والكل في دائرة الخرافة التي ميزت مسيرة المتصوفة منذ تاريخ النشأة إلى يومنا الحاضر، حيث استعادت بؤرة الموقد القديمة نشاطها البركاني، ولكننا معذورون، سنحكي اصطفاء بغير منخل فالبضاعة ثقيلة الوزن، كبيرة الحجم، والكيال لا يكاد يميز بين خبثها وخبيثها.. وغثها وسمينها..
ففي كتاب “التشوف إلى رجال التصوف” لصاحبه ابن الزيات، ومحققه سعادة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، نقرأ مثالا لا حصرا أنه قد جاء أبو زكرياء المليجي في زيارة إلى الشيخ العارف أبي عبد الله الرجراجي، وكان طرف قوس قزح عند عتبة باب داره والطرف الآخر في موضع آخر، فلما خرج أبو عبد الله من داره قال: “بسم الله الرحمان الرحيم، وجعل رجله على طرف قوس قزح، فلم يزل يمشي عليه إلى أن هبط من الطرف الآخر! فصاح أبو زكرياء المليجي وقال: “وصل الرجال إلى هذه المنازل وأنا هكذا، وخرَّ مغشيا عليه، فلما أفاق هام على وجهه، ثم أقبل على الجِّد والكد إلى أن لحق بالأفراد”.
إنها واحدة من آلاف القصص الخرافية التي ضربها الصوفية أمثالا على حقيقتهم وكراماتهم، وعلقوا فهمها وعقلها حصرا وقصرا على الذين ذاقوا فوطئت أقدامهم منازل الولاية والفناء والإغراق والشهود..
وأي تعليق حقيق بنا أن نقدمه بين يدي هذا البهتان العظيم، اللهم إقرارنا في مقابله بمعجزة الإسراء والمعراج التي كان البراق فيها وسيلة المعراج صحبة جبريل عليه السلام، فأنّى ذلك من هذا الذي مشى على خيط الدخان وسراب الألوان بغير عون ولا جناحين، إننا لا نملك إلا أن نرثي لحالنا ونأبِّن أمتنا، فقد نال منها جهد البلاء، وهي تواجه اليوم مدَّ التنصير، وتقارع سخائمه السامة المميتة، مستكبرين النصر، مستصعبين دك عقبته الكئود.
وكيف لا يحصل معنا هذا الاستصعاب؟
ونحن نرى أن أصحاب عقيدة التثليث لا يزالون يستغربون تعددهم الثلاثي، ويتذوقون شذا طعمه عن الفطرة والعقل، ولذلك نراهم في معرض الدعوة يتأولون الثلاثة في حكم الواحد، بينما نحن المسلمين ذهبنا بإسلامنا مذاهب لا يعرفها، ولم يكن له في غربته الأولى شأن بها، وفرّقنا تركته النفيسة، وصرنا شيعا، منا من استعبدتهم جذوع الأشجار، ومنا من أخذت مضغته جثت الأموات وقطع الأحجار، والحفر المسكونة بالمردة الأشرار، فها هي القبور والمشاهد والأضرحة قد عمّ جوانبها الصلوات إليها، والطواف حولها، والنسك على أعتابها، وتقبيلها بإنابة وإخبات، علامتهما تعفير النواصي على ترابها رجاء فيها من دون الله تحقيق النصر وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفان من مصائب الزمان، واستمطار الغيث، واستدرار الرزق، وجلب العافية.
وليس هذا من باب الرجم بالغيب والرمي بالبهتان، ولكن اسمع لما أورده أبو بكر العراقي في كتابه “حوار مع الصوفية” نقلا عن أحد القبوريين، وهو إمام وخطيب في أحد مساجد ديالى بدولة العراق، يقول: “دعوت الله ست سنوات أن يرزقني الولد فلم أرزق، وذهبت إلى قبر شيخي مصطفى النقشبندي في أربيل، فما إن استغثت به وطلبت منه الولد حتى رزقت بطفلين توأمين”، وذلك عين ما ذكره الآلوسي في كتابه “روح المعاني” نقلا عن بعضهم، قوله: “الولي أسرع إجابة من الله”، تعالى الله عما يقوله الأفاكون علوا كبيرا.
ولتسويغ هذا الخطل النكد، اسمع لابن الخطيب وهو يحكي في كتابه “روضة التعريف”، حيث قال: “وخواص الله في أرضه، ورحمة الله في بلاده على عباده: الأبدال والأقطاب والأوتاد والعرفاء والنجباء والنقباء وسيدهم الغوت”، فإذا وَجد هذا الابتسار مكانا له في الخاطر، فزد عليه ما حكاه محمد الحاج الدلائي في المحاضرات، من “أن قضاء الحاجات يقضى على أعتاب ثلاثة قبور، لأصحابها عبد السلام بن مشيش، وأبو يعزى يلنور، وأبو سلهام، غير أنهم اختلفوا في باب القضاء والتلبية:
فالأول: في أمور الآخرة. والثاني: في أمور الدنيا. وأبو يعزى في الكل”.
ولا عجب بعد هذا، أن يقول آخر كما جاء ذلك في “سلوة الأنفاس”: “اعلم أن من أعظم نعم الله علينا وأكبر أياديه لدينا، وجود الأولياء وظهور أضرحتهم.. إذ لولاهم ما أرسلت السماء قطرها، ولا أبرزت الأرض نباتها، ولصب البلاء على أهل الأرض صبا”.
وبعد هذا التجاسر والتألي المقيت، لا نملك إلا أن نسكب العبرات على التوحيد، وأي عين غيورة يجمل بها الشح بمائها أمام هذا التأبين العقائدي، الذي لا نملك فضحا له إلا أن نعرضه على توحيد الجاهلية الأولى، فقد أخبر ربنا جلّ وعلا بعقيدة صناديد كفر مكة، الذين قارعوا رسالة التوحيد الصفية، قائلا سبحانه: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ} (يونس:31)؛ {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ، إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر 13-14).
وبعد هذا العرض والإقرار، نعيد العود على بدئه لنعرف هل فعلا لا مشاحة في الاصطلاح، وأن الاختلاف اختلاف تنوع لا تضاد، وأن هذا الفرع المتفرع لا يعود على الأصل الأصيل بالهدم والنقض؟ تاركين الإجابة لكل من له ذرة إيمان وحياء من الله عز وجل.