الواردات الثقافية بين دعوى الندية وواقع الهيمنة* عبد المغيث موحد

عندما تشير الإحصاءات الرسمية لدولة عظمى بأنها تبيع من الأفلام والبرامج التلفزيونية لزبونها التقليدي أكثر مما تسوقه من الأسلحة والسيارات، وحينما يصرح أن مجموع دخلها في العام الواحد من صادراتها الثقافية الملغومة قد تجاوز عتبة المائة مليار دولار، فإن المرء لا يملك الحق في الاستغراب غير المبرر والتعجب غير المرشد إزاء هذه الهيمنة الثقافية الغربية على سوق عكاظ العربية الإسلامية، والتي لا تعدو أن تكون بقراءة عقلانية مشبعة بالآثار الإيمانية صورة من صور الاحتلال غير المباشر، الذي تميز عن سالفه القسري بزهادة الكلفة و ضخامة الربح، وشدة التأثير وفعالية الرمية، وعضالة الإصابة وصعوبة المواجهة.
وأنّى لقوى الخير وغرس الإيمان أن توحد شعوبها المستهدفة، وتحفز شباب الأمة وتحشد قواه العقلية لمقاومة هذا التأثير الجارف، والذي خطط بمكر ودهائية ليتجنب أخذ شكل من أشكال الاحتلال السافر، الذي سبق أن خرج من تخومنا يجر أذيال الذل والهزيمة، ثم عاد ليتسلل لواذا إلى حصوننا، وليغنم من ثرواتنا البشرية أنفالا رعيلية، ويستقطب من بني الجلدة، جيلا آثر الفكر الدخيل وتبني نموذج التغريب، بل ربط بعنف وتطرف بين التنمية ورهان التقدم، ومدى قوة التبعية وحجم الانسلاخ عن الموروثات التراثية، التي يعتبر ديننا وشريعته الغراء أول المقصوفين وأكبر المستهدفين من هذا الفصام النكد..
ولقد استغلت هذه الجحافل المهزومة من خلال إعادة اجترار الهزائم والنكسات التي مرت بالأمة ولا تزال في صياغة نظرة مدخونة إلى ذلك الماضي النفيس، رغبة منها في ربطه بكل ما من شأنه أن يكون قد ساهم في دخول الأمة أتون الفتنة وحالة الفوضى، ودائرة اليأس والقنوط، وبالمقابل فتحت أمامها السبل والمنابر الأثيرية والمكتوبة التي بيعت وتباع بالثمن الزهيد، ولكن بيعها كفيل بتحقيق الثراء الذي عنوانه الزلمكة الرباعية الدفع، والأناقة التي رمزها ربطة العنق والعطر الفواح الذي تنم رائحته على نزعة انتساب إلى مدنية عملاقة الفكر جبارة القوة، ويا ليت الأمر وقف عند حد رائحة يؤكسدها العبق الهوائي الأصيل فتستحيل إلى أثر بعد عين، ولكن القوم سمحوا لأنفسهم أن يكونوا مجرد جسر يمر عبر خطوطه قطار الموت والتغريب، وألسنة همّها الإشادة بمدنية الغرب، ومقل متعتها الانبهار بالمنجزات المادية المذهلة، وعقول سجدت نواصيها للغرانيق الوثنية اللادينية…
وحري بنا عند هذه النقطة وقبل أن يفيض كأس الثمالة، أن نشير بالعمد المترصد إلى أننا وحينما نسلم بكون هذا الغرب الغائر، قد نجح في استقطاب ثلة يطيب للبعض أن يطلق عليها تجوزا “الأقليات الإستراتيجية”، تسليما نضيف إليه إقرارنا بكون هذه الأقلية قد نجحت -بمفهوم النجاح عندها- في نقل أنماط التفكير، وفلسفات العيش المهجنة إلى حاضر قصعتنا التراثية، وهي اليوم في طريقها الوعر المتعرج المنحدر، تتذوق مرارة الهزيمة، وتتحسس بالمعاينة والملموس شكلها، المتداعي المقهور الذليل الذي فقد الندية، بينما لا يزال يدعي من قمقم التبعية المحضة قدرته على مواجهة متبوعه المتغطرس القاهر ذي القوة الرادعة المستأثرة بالفضل المطلق والسلطان الأخرق.
حري بنا أن نسمي أعيان هذه الثلة الإستراتيجية، بكونها تلك المجموعة من أساطين الفكر التحرري التي تمردت على واقع ثقافة الأسلاف، بدعوى أنها سلعة تجاوزها القطار، وبضاعة نالها البوار، فخاضت حركة تمردها بأسلوب ماكر نفيس، ولغة راقية ذات تأثير عابر، واستيطان أفقي يقهر ألباب السباع، ويغري لعاب الضباع.
حركة ساهم في إذكاء فتنتها تزامنها مع الحركة المشرقية التي حمل روادها لواء التجديد الديني، ورفعوا عقيرة العقل الفلسفي الراغب في التحرر مما أطلقوا عليه جمود حركية النص، الذي أحاطته المدرسة السلفية بزعمهم بهالة من الأسلاك الشائكة باسم القداسة، ولذلك نجدهم قد ساهموا في اتساع دائرة التغريب، وتمطط بلوى التقريب، سيما إذا علمنا أن رواد هذه المدرسة المشرقية، وبعدما عملوا على إقصاء التراث الإسلامي الذي هو الجهد الذي بذله سلفنا الأبرار، نجدهم قد تجاوزوا هذا الإقصاء إلى التصرف في ما هو ثابت مقدس، في محاولة عبثية تسعى إلى إخضاع الوحي، وتطويع ثابته المطلق إلى ما هو وضعي قائم على المتغير النسبي، وقد أدى هذا الاجتراء السافر في مرحلة دقيقة من تاريخ الأمة إلى أن يفتح أمام دعاوي التغريب هامشا من الغلبة، أدت إلى إضعاف الوازع الديني المعاملاتي في حياة الجماعة التي باتت تتشكل من أفراد وهيئات فاعلة لا تتورع عن البراءة من كل ما هو مقدس من قيم ومبادئ، بل وتطارده بجفوة وغلظة في الحل والترحال، غلظة لا نظير لها حتى عند العلج المناوئ.
فهي إن رغبت في الرقي فلا سبيل لتحقيق ذلك إلا عبر الانسلاخ الكلي من الأسباب الرئيسية لتخلف الأمة، أسباب يلخصها أهل التنوير الظلامي في أبدية الانتساب إلى الماضوية والتشبت بمنتوجها التاريخي، وبالمقابل ترى هذه السخائم أن الحل السحري يكمن في العض بالنواجذ على النموذج الغربي، ومدى الرغبة الجياشة في استقبال جرعات مستفيضة من العقلانية الصقيعية ذات المردود الغزير الباهر من حيث الإبداع والابتكار، ها هي أمريكا ودون الاعتماد على الأصالة التاريخية، قد حققت بمدار قرنين قفزة ابستمولوجية، واستطاعت أن تبني في ردهة من الزمن أعظم قوة، مما برّر ويبرر لأشياع هذا النموذج الفريد عملية الانجراف والانسراب السريع وراء الوصايا العشر لهذه القوة الغاشمة، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه وبإلحاح هو ماذا حقق العاربة والمستعربة ذوي النزعة المتغربة من هذه التبعية المقيتة؟!
لقد آن الأوان أن نعطي للعقل السليم الذي نشأ في بيئة سليمة لا تشوبها الشوائب، عقل يقيس الأمور بمقياس الشرع الحكيم لكي يعطي تقييما فاضلا بعيدا عن كل زيف، وليزن بميزان العدل النافر من كل حيف هامش الربح والخسارة التي جنتها الأمة من هذه المغامرة الطفيلية، ولا شك أن لهذا العقل فراسة إيمانية لا تخطئ، وعين تحرس التخوم لا تنام، وتوفيق رباني لا يلحقه الخذلان، مع أن النتائج الكارثية التي وصلت إليها أحوال الأمة فأوقفتها على شفا جرف هار لا يستدعي فراسة ولا بصيرة، إذ بات الضياع سيد الموقف، والاختراق والانصياع رمز العلاقة بين طرف مغلوب متهالك يستقبل الوافدات المدخونة ليطبقها على عجلة وفور، وطرف غالب لا يراعي إلا مصالحه الامبريالية، ولا يكترث إلا بتحقيق الفضاءات التي يفرغ فيها زبالة بضاعته، ولا يطالب إلا بمزيد من الربح والثراء الفاحش حتى ولو كان -ولقد كان- على حساب ملايين الجوعى والضحايا والمعطوبين بآلته العسكرية الغازية، الساعية بكل أدب واحترام وسلام إلى دمقرطة مجتمعاتنا البدائية، والراغبة في تربية أبناء الأمة وبناتها على الحرية الفوضوية، والتحرر المشوب برعونة وانحلال لا مثيل لهما..
فما هي تمظهرات هذا المسخ الثقافي والفسخ العقلاني الذي يسمم باسم اللقاح، ويعطب باسم الإصلاح ، ويصدر هزائمه ونكساته إلى الواجهة باسم الفلاح والنجاح؟
*(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *