إن النظر في كتاب الله صار يستدعي وبإلحاح، تدبر ما تحمله آياته من توجيهات ربانية، تعالج مناحي كثيرة من الحياة، ولعل العيي من الناس، من قصرت نظرته اتجاه القرآن الكريم، فحكم عليه بأنه كتاب لا تصلح توجيهاته السامية إلا لنيل الجنة، بمعنى أنه مجرد كتاب له علاقة بالآخرة، والأهون من ذلك من صار يصف القرآن بأنه مجرد وثيقة تاريخية، لا علاقة له بما يجد في دنيا الناس، وكلا الرؤيتين تجسد عين الغلط.
إن القرآن الكريم يزخر بكل ما يحتاجه الإنسان من أجل صلاحه على وجه الأرض، ولو تأملت مليا لبان لك ما يدعو إلى جعله دستورا، بل أسمى، لأن ذلك تخضع بنوده للأهواء والنزوات، وأما آيات القرآن ومقاصدها فإنها شاملة لكل ما يحتاجه المخلوق، لأنها صدرت عن الخالق، وهو أعلم بما يليق لما خلق.
فالقرآن الكريم، يمكن الرجوع إليه على مستوى المعاملات المالية، وحقوق المرأة والطفل، ناهيك عن التوجيهات التي تدعو إلى المساواة ونبذ العنف واعتبار حق الأقليات…
ومهما كان استغوارنا جديا في التنقيب عما تحمله الآيات الكريمة، عبر القصص والسرد التاريخي لما حدث في قرون خلت، تبقى قراءتنا نسبية، قد لا تفي بالغرض المنشود، لذا فإن نصوص القرآن الكريم حمالة لما تحتاجه كل العصور والأزمنة، وعلى كل جيل أن يبحث في خباياه ليحصل ما يقوم به الخلل.
فلا مناص إذن من اتخاذ الوسائل، مع شيء من الجرأة التي أصبحنا في حاجة إليها، لاعتماد النصوص التي تشير من قريب أو بعيد، لما تتطلبه الحياة المتجددة على مستوى جميع الأصعدة، فلا يليق بنا كوننا حملنا مشعل الحضارة الحقيقية يوما، أن نترك مبادئ القرآن ليجربها قوم آخرون فيفلحون، ونضل نحن في الحضيض، نكابد الويلات والخلاص بين أيدينا.
قد يشدنا العجب، إذا ما أعلناها صريحة مدوية، وصرخت الألسنة بأن الحل الأنجع هو اتباع التوجيهات الربانية، لاسيما وأن أول ما اشتغل به الخليفة الأول، آدم عليه السلام هو العلم، ذاك العلم، هو الذي يؤهل للقيادة وسياسة الخلق، جاء في الصحيح للبخاري “كان بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي” (باب ما ذكر عن بني إسرائيل).
ومعلوم أن الأنبياء يرومون مصالح الدارين، وبذلك يكون سائس الخلق، لابد له من أن يمتح من معين ينبوع هذا التوجه السامي، خصوصا ونحن نعلم أن الإسلام لا ينفك عن تحقيق مصالح الخلق، لاسيما تلك التي تخدم الجماعات قبل الأفراد، ومن تم كان أول أساس في النظرية السياسية الإسلامية هو:
ــ العلم:
واعتباره على مستوى المشتغلين بقيادة الناس وسياستهم، من أهم التجليات التي تضفي نوعا من التريث، في اتخاذ القرارات، مع أن العلم الذي يستوطن عقلا مؤمنا، قد يقود إلى الاطلاع على أحوال الناس ومراعاة ظروفهم، ومعيشتهم…وليس من العجيب أن آدم كان مقبل على هذه المهمة، لذلك كان حري به أن يتعلم الأسماء، وهي بمثابة ما نعرفه اليوم بمصطلحات العلوم، والتي لابد منها، لأنها هي مفاتيح أي علم.
والحقيقة تشهد، على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائد الذي لم ينفك عن القرآن قيد أنملة، كان يحيط به في سياسته للناس أعلم الناس، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت…وهؤلاء لم يكونوا علماء بالشريعة فقط، بل كان منهم من هو عليم بالتجارة، ومنهم من يتقن فن التواصل مع الناس، ومنهم من له القدرة على القيادة بشيء من الصرامة، حتى لا تختفي معالم الدين.
إن الذين ينكرون علاقة الدين بالسياسة، قوم رضعوا من حلمة العهد الكنسي، ومخلفات كارل ماركس، التي لم تنتج إلى حد الساعة، إلا مخالفة الفطرة السليمة، منغمسة بذلك في وحل حضارتهم، التي هي الآن في عداد المفقودين، جراء فهمهم الأعوج لمتطلبات الإنسان العابد لنزواته وشهواته.
ولنا دروس في قصة سليمان عليه السلام، حينما جاءه خبر قوم يعبدون الشمس، فلما أراد رؤية عرش بلقيس، وجد صاحب العلم بجانبه، أتاه به قبل أن يرتد إليه طرفه، جاء في كتاب “كرامات الأولياء” للالكائي: عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: “الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ قَالَ: مِنَ الْإِنْسِ وَالَّذِي قَالَ: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ مِنَ الْجِنِّ قَالَ: أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَجَاءَ بِهِ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ، فَقَالَ لِسُلَيْمَانَ: ارْفَعْ طَرْفَكَ قَالَ: فَرَفَعَ طَرْفَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ طَرْفُهُ حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْهِ”.
ومنه نستفيد أنه لا مندوحة لأي قائد يسوس الناس، أن يتخذ بطانة لها من العلم، ما يساعد على تحقيق ما تتطلبه الحياة المتجددة.
ولا نقصد التمكن من العلم المنعزل عن الأخلاق، بل لابد من موازنة بين العلم والعمل، وإلا فما ينفع السياسي العالم، إذا لم يتحلى بأخلاق فاضلة، تحفزه على مخافة الله في الخلق، ولقد نعلم فيما نعلم، أنه حينما وقع الانفصام بين العلم والعمل، ضاعت الحقوق، وهدمت مبادئ وقيم…
فلك أن ترى بأم عينيك ما يقع في المستشفيات العامة والخاصة، وما يحدث من انتهاكات خطيرة، يروح ضحيتها مرضى فقراء ومعوزون، ومنه نستشف أن غالب الممتهنين لمهنة التطبيب، تمكنوا من علم الأجساد وأهملوا علم الأخلاق والتشبث بتلابيبه، لأنهم تعرضوا لتعلم الطب، في غياب مدارسة الرقائق مثلا، والقصص التراثية الثابتة المؤثرة، التي قد تولد الرأفة والرحمة، ولك أن ترى ما يقع وراء المكاتب الإدارية، عبر المحاكم والمؤسسات ومراكز الخدمات، من تسيب وإهمال وزبونية…
بربك أهؤلاء كلهم لا علم لهم يؤهلهم لمزاولة مهنهم تلك؟؟؟ كلا وألف كلا، إن الطامة الكبرى، هي أن استحضار المراقبة الإلهية شبه غائبة بل غائبة، وهذه المراقبة كان ينبغي أن تزرع وتقذف في الأفئدة أيام الصبا، أضف إلى ذلك أن تتبع ورصد ما يجري لا يؤبه له ألبتة، وذلك ناتج عن غياب السياسة الرشيدة التي مرجعها الدين، ولاشيء غير الدين.
قد يند البعض منا ليشير إلينا ببنانه، متهما لنا أننا نقصد إحداث دولة دينية، وهذا ضرب من الوهم الذي تبرز بين ثناياه، مع أن التهمة باتت ملفقة ولا أساس لها من الصحة، مادام التاريخ حفظ لنا وبكل دقة، ما توصلت إليه الحضارة الإسلامية، في عهد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة الأربعة، وعمر بن عبد العزيز، فهل يصح أن نقول إن تلك الفترة كانت الدولة دينية؟ أبدا، ولو كانت كذلك لما سطرت حقائق، لازال التاريخ يحفظها وبكل أمانة، ومنها:
ــ دعوة الناس إلى الإسلام، سواء كانوا كفارا يهودا أو نصارى…وفي ذلك تشريف لهم لأن ينسلخوا من عبادة الهوى والأوثان، وحتى إن قاتلهم المسلمون فإن في قتلهم رحمة، حتى لا يزيدوا في غيهم وجحودهم، والعذاب والعقاب في الآخرة، على قدر مدة الكفر والعناد، وإذا نظرت إلى مجموع الأدلة في باب القتال والحروب، لوجدت أن محمدا صلى الله عليه وسلم، كان يميل إلى المحافظة على الأرواح أكثر من ميوله إلى الحرب والقتل، بل إنه لم يقتل إلا واحدا في غزوة أحد، لما أراد إبعاده، فصح أنه خدشه بحربة في نحره فمات بسببها.
ـــ ترك الحرية لغير المسلمين، لأن يعيشوا جنبا إلى جنب مع فرض الجزية، مقابل الزكاة التي تفرض على المسلمين، وذلك كله يدخل في إطار السياسة المالية، ليستفيد من ذلك، الضعفاء وما تحتاجه الدولة.
ــ عدم إكراه الناس على التدين بدين الإسلام، مقابل خدمة ما يصلح البلاد والعباد ولا فرق في ذلك بين المسلم وغيره، ولك في الوثيقة العمرية بالقدس آنذاك ما يفند الدعاوى الباطلة.
ــ عدم قتل الأسرى، ريثما ينظروا مليا في هذا الدين، ليفهموا مزاياه، مع عدم قتل الأطفال والنساء في الحروب، لأن المرأة هي الأرض التي تنتج وفي قتلها، تهديد لانقطاع النسل ونقصانه، وبالتالي تلاشي الخلافة في الأرض.
إذن هذه حزمة من الأفكار، لها علاقة وطيدة بما يزخر به التراث الإسلامي، تتخللها جمل طويلة، لو أردنا أن نفصل فيها لظهر لنا جليا أن محمدا صلى الله عليه وسلم، لم يكن أبدا في مقصوده إنشاء دولة دينية، تكره الناس وتجبرهم على الاستسلام والإذعان، لما تفرضه مبادئ الدين الإسلامي.
إن الدين الإسلامي بريء كل البراءة، من اتهامه بكونه لا يليق إلا بالمساجد، ودور العبادة، من زوايا ورابطات، إن الإسلام دين الحيوية والعمل، والكد والاجتهاد، الكل يتعلم ويعمل من أجل إعمار الأرض، السلطان، والرئيس، والمدير والفقير والغني…وحتى الإمام الذي يؤم الناس في المساجد، حتى لا يوصف الإسلام بكونه له رجال دين، يتميزون عن الخلق، ويمنحون صكوك الغفران، ويغفرون المعاصي للعصاة والمذنبين، ولقد كان ثابتا، أن الصحابة كلهم كانوا يتعلمون ويعملون لإنجاح اقتصاد البلاد، والإسهام في رقي الحضارة، وعند الصلاة يؤمهم أقرؤهم أو أحفظهم… أما الآن قد ترى تقلص دور إمام المسجد، وصار هذا الإمام والخطيب، والواعظ، خاضعين لما يملى عليهم، لا يتفوهون إلا بتفاهات الأمور، في حين كان من الأولى أن يشجع كل من له الكفاءة، من أجل التوعية ونشر العلم بدل عزلهم وإبعادهم، فصارت خطب الجمعة فارغة المضمون، غالبا ما يتزعمها من لا يحسن حتى قراءة العربية بشكل سلس، وفي هذه الجزئية إشارة إلى إرادة فصل الدين عن السياسة.
ومهما يكن، فإن العلم من الأسس الأولى التي تنبني عليها النظرية السياسية الإسلامية، التي يمكن أن تتأسس انطلاقا من فهمنا العميق للآيات، والأحاديث وما تعلق بحياة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه هو القدوة والمتبع في كل الأمور، مع النظر في مقاصد تلك الآيات والأحاديث، حتى وإن كان المراد يحتاج شيئا من التعب والتنقيب، لحصول ما يشفي الصدور.
وتأمل إن شئت المرحلة التي تلقى فيها رسول الله الوحي من ربه، لقد تأمل بكل إصرار، وتدبر إقبال النهار، والليل عند الإدبار، وعايش القفار في قعر الغار، لماذا يا ترى؟؟؟ ماذا سيفعل به الرب الكريم الرحيم الغفار؟؟؟ سيعلمه القراءة، وهي أولى لبنات تملك العلوم، وما الغاية من التعلم والعلم بعد جهد جهيد، وبعد معاناة مع الليالي ذوات العدد، لا لشيء سوى ليتحقق مفهوم الحديث الذي سقناه آنفا، ومقصوده أن الأنبياء يسوسون الخلق لكن بعلم، أليس من بين أنبياء بني إسرائيل موسى عليه السلام الذي قطع البراري والفيافي ليتعلم على يد الخضر؟؟؟
ثم إنه كان من الممكن أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم، الوحي في بيته بادئ الأمر، ولكن الأمر الذي سيقبل عليه، وهو (سياسة) الناس، أمر عظيم يتطلب أن يكابد ولو لأيام، ليتشرب فؤاده بأن ذلك يحتاج إلى عدة، تتمثل بكل وضوح، في التزود بزاد العلم.
ولا غرابة أن تجد أول الأنبياء تعلم الأسماء، وآخر الأنبياء دعي للقراءة، وبين تعلم الأسماء والقراءة علاقة، وقد اشتغل آدم عليه السلام بسياسة أبنائه باديء الأمر، واشتغل محمد صلى الله عليه وسلم بسياسة العرب، بل بسياسة الناس جميعا، فليتدبر في ذلك من يريد أن يشتغل بالسياسة.
ويتبع بإذنه الله تعالى