من المعلوم أن التدريس ميدان يحتاج إلى ضبط النفس والتحلي بمجموعة من الأخلاق الفاضلة، مع التوفر على مهارات وقدرات عالية للانصهار مع متطلبات الفئة المستهدفة، لأن الزاد المعرفي الوفير قد لا يكفي وحده لضبط سير العملية التعليمية التعلمية، ولذلك كان “مدرسنا” خاطئا حينما كان يظن أن الزاد المعرفي، مع شيء من الانتقام والاحتقار، إضافة إلى ما تتصف به نفسيته من سادية، كاف ليجعل منه أستاذا متألقا تجود قريحته بكل ما تحتاجه تطلعات الفئة المستهدفة.
كان “مدرسنا” يتكئ على شرفة قريبا من باب القسم، يتبادل أطراف الحديث مع زوجته عبر هاتفه الخلوي، تلك الزوجة أخبرته بأن قرار المحكمة برأ ابنه من التهم التي وجهت إليه، وذلك بتدخل قاضي الأحداث الذي سبق له أن درس عند “مدرسنا” كان هذا القاضي تقاضى مبلغا ماليا مقابل تبرئة الابن المدلل والمتهم، والذي غالبا ما كان يتبجح أباه أمام تلامذته، بأنه أحسن حالا منهم وأنه يحظى بتربية حسنة، في حين أن الواقع كان يكذب دعواه، ولقد كان المتعلمون على اطلاع بخروقات ابن مدرسهم، لكنهم كانوا لا يريدون أن يفصحوا عما يروج بداخلهم من ملاحظات وتعليقات، بشأن ابن المدرس.
كان التلاميذ يستغلون انشغاله بالحديث عبر الهاتف، فيحكي أحدهم لصديقه القريب منه إحساسه اتجاه المادة التي يدرسها ذلك “المدرس” ، لكنهم كانوا يتبادلون النظرات التي تنبئ بحلوله بينهم بشكل مباغت.
إنها التاسعة وعشرون دقيقة صباحا، ما أن استدار داخلا إلى قاعة الدرس حتى سمع وشوشات متفرقة، ثم أخذ يستفسر التلاميذ بأسئلة تفوح منها رائحة التهكم والسخرية، من قبيل:
ــ ألا تفترون من الكلام؟ ثم يضيف، لقد اشتغلتم بالثرثرة منذ كنتم في أرحام أمهاتكم، ونسي المسكين أنه تحدث مع زوجته مدة ثلث ساعة، وقد خصم ذلك من وقت المتعلمين.
في هذه اللحظة تبادل أبناء الميسورين النظرات ممتعضين من كلماته الهجينة، ففهم قصدهم ثم قال:
ــ أقصد بكلامي ذاك، أولئك الذين تربوا في أحياء شعبية بئيسة، فهم أولى بألا يدرسوا أصلا، لأنهم تربوا على عدم الاحترام والتأدب ووو.
فهم ابن الإسكافي وابنة الخباز وغيرهم من أبناء الفقراء، أنه يعنيهم بكلامه، لكن ابن ضابط الشرطة لم يستسغ الأمر ورد عليه بلهجة شديدة:
ــ أستاذ إن الفقراء هم الذين تدور عليهم رحى الاقتصاد، فهم يسهمون بشكل كبير في دوران دواليب الحياة النشيطة، وصدق من قال: لولا أبناء الفقراء لضاع العالم، طأطأ مدرسنا رأسه، وكأنه لم يسمع شيئا، مع أمره إياهم بأن يذعنوا لتتبع محاور الدرس.
كان يسير مع مواد ومحتوى المقرر، دون أن يضيف أو ينقص شيئا وكأن ما في الكتاب المدرسي وحي يتلى، رغم ما كان يتعارض مع متطلبات التلاميذ، كعدم مراعاة سنهم، ونمو عقلهم وانتمائهم الديني… ولما تعرض لاستعراض محور كان لا يتوافق مع ميولات الفئة المستهدفة، علق أحد التلاميذ بأن ذلك المحور لا يهمهم في شيء، فأضافت تلميذة قائلة:
ــ أستاذ، نحن معشر التلاميذ نعتبر كفئران تجارب، فما فائدة أن تمرر لنا معلومات وأفكار لا علاقة لنا بها، ثم أضاف متعلم ثالث في تهكم:
ــ ما علاقة، أسماء لشخصيات تحمل صبغة فرنسية، كميشيل، وجاك… نحن لدينا أسماء جميلة مثل محمد والعربي… ثم أضاف إن أفكار رواية الحي اللاتيني والكلاب واللصوص… لا تفيد المتعلم، إنها مجرد خرافات متناثرة في مؤسساتنا التعليمية.
ضحك الجميع وتعالت القهقهات، لكن المدرس نسف بمدفع فمه قذائف أرعبت الجميع، وهو يقول:
ــ اسمعوا وعوا، إن الكتاب المدرسي لا ينبغي تجاوز ما فيه، هذا ما تقرر من طرف الجهات المسؤولة، وأنا هنا وصي للإبلاغ وتمرير كل الملاحظات المناوئة، أظنكم تيسرون في الاتجاه الممنوع.
تسمر التلاميذ كل في مكانه، لكنهم ارتاحوا من عدم تذكر المدرس للمراقبة المستمرة والتي كان من المفروض أن تجرى أثناء تلك الحصة، وكان قد نسي ذلك بفعل إرباكهم له حينما أبدوا عدم تفاعلهم مع بعض المحاور المدرسة.