أدب المعاملة ودوره في الحفاظ على وحدة الصف وحلّ المشكلات الاجتماعية 2/2 د.عبد العزيز وصفي باحث في العلوم الشرعية والاجتماعية

أدب المعاملة وأثره في حلّ المشكلات الاجتماعية

 

إنّ أدب التعامل مع الآخرين وعدم الردّ على السفاهة بمثلها، خُلُقٌ كريم يُصفّي القلوب، ويزيل منها الضغائن والأحقاد، ويجعلنا نتجاوز الكثير من المشكلات الاجتماعية.

فمما لا شك فيه أنَّ القول السيئ وما يتبعه من ردود أفعال قد يُحدث مشاكل ومضاعفات، يكون لها أسوأ النتائج. وهنا يأتي دور مقابلة الإساءة بالإحسان في الإصلاح النفسي والاجتماعي لنفوس الناس وطبائعهم. وهذا المنهج في الإصلاح الاجتماعي واضح في قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[1].

رُوي أنه لما نزلت هذه الآية، سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عنها، فقال: لا أعلم حتى أسأل، ثم رجع فقال: إنّ ربك يأمرك أنْ تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك[2].

والأمر بالمعروف الذي تتحدث عنه الآية الكريمة، قضية مهمة في إصلاح المجتمع، وفي تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي بين أفراده في أحسن صورة. “ومما لا شك فيه أن إصلاح الفرد هو الخطوة الأولى في إصلاح المجتمع، لأن الإنسان خلية في جسد المجتمع البشري، إذا فسدت أضرّت به وآلمته، وإذا صلُحت حملت له الأمل بالصحة والعافية. ولا يكفي أن يُصلح الإنسان نفسه، لأنه مسؤول أيضاً عن إصلاح أسرته الصغيرة، وكذلك عن الأسرة الإنسانية التي يعيش بين ظهرانيها”[3]. وفي معنى هذه الآية قيل شعراً:

خذ العفوَ وأمرْ بعرفٍ كما   أُمرتَ وأعرضْ عن الجاهلينْ  
ولِنْ في الكلام لكلِّ الأنامِ   فمُسْتحسنٌ مِنْ ذوي الجاه لِين[4]

 

ويبيِّن الإمام الشافعي بكلماتٍ بليغة منظومة، كيف أنَّ العفو وعدم الردّ على السيئة بمثلها، يجنِّب الإنسان الكثير من العداوات، الأمر الذي يسهم في حلّ الكثير من المشكلات الاجتماعية. يقول:

لَمَّا عفوْتُ ولمْ أحْقدْ على أحَدٍ   أرَحْتُ نفسي مِنْ هَمِّ العداواتِ
إنِّي أُحَيِّي عدُوِّي عِندَ رُؤيتهِ   لأدفَعَ الشرَّ عنِّي بالتحيَّاتِ
وأُظْهرُ البِشْرَ للإنسانِ أبغضُهُ   كأنَّهُ قدْ حَشَى قلبي مَحبَّاتِ
ولسْتُ أَسْلَمُ مِنْ خِلٍّ يُخالطني   فكيفَ أَسْلَمُ من أهلِ العداواتِ
الناسُ داءٌ وداءُ الناسِ قُرْبُهمُ   وفي اعتزالهم قَطْعُ المَوَدَّاتِ[5]

 

وعلى مستوى الأسرة يُبين لنا القرآن الكريم، أنَّ الوعظ بالكلمة هو الخطوة الأولى في رأب الصدع القائم بين الزوجين في حال النشوز. قال تعالى: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ[6].

ويكون وعظ الزوجة بتذكيرها بما أوجب الله عليها من حُسن الصحبة وجميل العشرة، بحيث يكون الزوج في وعظه كَيِّسَاً لَبقاً طويل الأناة، يعظ مرّة ومرّة ومرّات، على فترات متقاربة أو متباعدة حسب الظروف، فإن ذلك جدير بأن يُلين من حدّتها ويردّها إلى سبيل الرشاد[7].

فإن الكلمة الطيبة أغلى عند الزوجة في كثير من الأحيان من الحليّ الثمين، والثوب الفاخر الجديد، لأن العاطفة التي تبثها هذه الكلمة هي غذاء الروح. فكما أنه لا حياة للبدن بلا طعام، فكذلك لا حياة للروح بلا كلامٍ حلو لطيف. وإن السعادة كلها ربما كانت في كلمة فيها مجاملة ومؤانسة يقولها أحد الزوجين لصاحبه، بل إنَّ إن الزوجين من أشد الناس حاجة إلى سماع كل واحد منهما الكلمة الطيبة من صاحبه. وإن أدب الكلمة أساس متين تُبنى عليه علاقات الحب والمودّة والرحمة والإنتاج والتربية[8].

 

وكثيراتٌ هنّ الزوجات اللواتي يستجبن لهذا الأسلوب المهذب الرقيق، ولكن هناك صنفٌ آخر لا يُجدي معهن ذلك، فيتمادين في نشوزهن، فهؤلاء يُتّبع معهن الوسائل الأخرى التي ذكرتها الآية: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا[9]. ولكن بفهمٍ ووعي وعدم تجاوزٍ للحد[10].

ولكن لماذا ينتظر الرجلُ زوجتَه حتى تنشز ليقول لها كلمة طيبة؟ ولماذا يهمل كلٌّ من الزوجين هذه الناحية إهمالاً شديداً، بحجة زوال الكلفة وقيام الانسجام الكامل بينهما؟ أليس الأجدر أن يكون أدب المعاملة هو أساس العلاقة القائمة بين الزوجين؟

 

وفي سبيل حلّ المشكلات الزوجية، فإنَّ القرآن الكريم يوجِّه نحو العِشرة بالمعروف حتى مع الكراهة. قال تعالى: ﴿وعاشروهنَّ بالمعروفِ فَإن كرهتُموهنَّ فعسى أنْ تكرهوا شيئاً ويجعلَ اللهُ فيه خيراً كثيراً[11]. وتأكيداً لهذا التوجيه الكريم، وإيضاحاً لمعانيه، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يفرك مؤمن من مؤمنة، إنْ كره منها خُلُقاً، رضي منها آخر”[12]. أي لا يبغضها بغضاً شديداً يدفعه إلى فراقها، بل يتغاضى عن مساوئها، لما فيها من محاسن أخرى.

 

والناظر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه يجد أنها كانت مثال الملاطفة والمؤانسة. فقد كان يؤانسهن ويمازحهن ويعمر نفوسهن بالكلمة الحلوة، والنظرة الحانية، والتصرف الودود، ويحتمل منهن أخطاءهن.

فكان على سبيل المثال يتحبَّب إلى عائشة رضي الله عنها بترقيق اسمها فيناديها بقوله: «يا عائش»[13] و «يا حُميراء»[14] و «يا شقيراء»[15].

كما كان صلى الله عليه وسلم يحترم مشاعر زوجاته. فقد رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال لصفية: «لم يزل أبوك من أشدّ يهود لي عداوة حتى قتله الله». فقالت: يا رسول الله، إن الله يقول في كتابه: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[16]. فلم يُسمع النبي بعد ذلك ذاكراً أباها بحرفٍ مما تكره[17]. وذلك حفاظاً على مشاعرها واحتراماً لأحاسيسها.

ولأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بشر وكذلك زوجاته، فإنَّ بيت النبوة كانت تعترضه بعض الخلافات والمناوشات بين الحين والحين. إلا أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان القدوة والأسوة الحسنة في كيفية التعامل مع هذه المشاكل.

روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير ، قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم ، ‏فسمع ‏ ‏عائشة ‏ ‏وهي رافعة صوتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏فأُذن له فدخل، فقال: يا‏ ‏ابنة أمّ رومان‏ ‏_وتناولها_ أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!‏ ‏قال: فحال النبي صلى الله عليه وسلم ‏بينه وبينها. قال: فلما خرج ‏ ‏أبو بكر، جعل النبي صلى الله عليه وسلم‏ ‏يقول لها ‏يترضاها: ‏ألا ترين أني قد حِلْتُ بين الرجل وبينك. قال: ثم جاء ‏أبو بكر ‏فاستأذن عليه فوجده يضاحكها. قال: فأذن لـه فدخل، فقال لـه ‏أبو بكر: ‏يا رسول الله، أشركاني في سلمكما كما أشركتماني‏ في حربكما[18].

 

ولا يخفى ما لهذا المنهج الإسلامي في الحث على أدب المعاملة بين الزوجين، من دورٍ فاعلٍ في حل الكثير من المشكلات الزوجية، فبهذا النظام الرباني الدقيق يصبح الخلاف بين الزوجين محصوراً، والتعاون بينهما أمراً غالباً، لا في حالة توافر المودّة والرحمة بينهما فحسب، بل وفي حالة ضعف هذه المودة وفتور المحبة والرحمة أيضاً.

 

وإذا كان الحديث هنا منصبَّاً على دور أدب المعاملة في حلِّ الخلافات الزوجية، فإنّ ذلك لا يعدو أنْ يكون مجرّد مثال، إذ إنَّ لأدب المعاملة الدور عينه في تجاوز الكثير من المشكلات الاجتماعية بين كافة أطراف المجتمع الإنساني لا بين الزوجين فحسب.

————————————————–

[1]  الأعراف: 199.

[2]  انظر: الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج9، ص155. الصنعاني، عبد الرزاق بن همام: تفسير الصنعاني، تحقيق: مصطفى مسلم محمد، ج2، ص246. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج7، ص345.

[3]  آقبيق، غازي: آيات قرآنية، ج2، ص96.

[4]  البيتان لأبي الفتح البستي. انظر: القيراواني، أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري: زهر الآداب وثمر الألباب، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ج2، ص427.

[5] الشافعي: الديوان، ص57.

[6]  النساء:34.

[7]  انظر: صالح، سعاد إبراهيم: أضواء على نظام الأسرة في الإسلام، ص140.

[8]  انظر: الصباغ، محمد بن لطفي: نظرات في الأسرة المسلمة، ص140.

[9]  النساء:34.

[10]  للوقوف على مزيدٍ من التفصيلات في مفهوم الضرب والهجر انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج5، ص (170-174). الخشت، محمد عثمان: المشاكل الزوجية وحلولها، ص (77-108).

[11]  النساء:19.

[12]  رواه مسلم. الصحيح،

[13]  من ذلك ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائش، هذا جبريل يقرأ عليك السلام. قالت: فقلت: وعليه السلام ورحمة الله. قالت: وهو يرى ما لا أرى». انظر: مسلم: الجامع الصحيح، كتاب فضائل الصحابة، باب رقم 13، حديث رقم 2447، ج4، ص1896.

[14] ومن ذلك ما رواه النسائي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ” دخل الحبشة المسجد يلعبون، فقال لي: يا حميراء،  أتحبين أن تنظري إليهم ؟ فقلت: نعم، فقام بالباب، وجئته فوضعت ذقني على عاتقه، فأسندتُ وجهي إلى خدِّه. قالت: ومن قولهم يومئذ أبا القاسم طيباً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبُكِ. فقلت: يا رسول الله لا تعجل، فقام لي، ثم قال: حسبك، فقلت: لا تعجل يا رسول الله. قالت: ومالي حُبّ النظر إليهم، ولكني أحببت أنْ يبلغ النساءَ مقامُه لي ومكاني منه». انظر: النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب: السنن الكبرى، تحقيق: عبد الغفار البنداري وسيد كسروي حسن، كتاب عشرة النساء، باب رقم 18، حديث رقم 8951، ج5، ص307.

[15]  من ذلك ما رُوي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لما تزوج من صفية، رأى عائشة متنقبة في وسط النساء فعرفها، فأدركها فأخذ بثوبها، فقال: يا شقيراء، كيف رأيت؟ قالت: رأيتُ يهودية بين يهوديات. وفي رواية أن رسول الله أجابها لما قالت ذلك بقوله: « لا تقولي هذا فقد أسلمت». انظر: الذهبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان: سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد العرقسوسي، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط9، 1413هـ)، ج2، ص236، ص237.

[16]  الأنعام:164 .

[17]  انظر: ابن سعد، أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الزهري: الطبقات الكبرى، ج8، ص132.

[18]  أحمد بن حنبل: المسند، ج4، ص271.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *