د.محمد الدريج: المدرسة والديمقراطية في سياق اختلال منظومة التربية والتعليم حاوره: ذ.الحسين باروش

يكتسي موضوع “المدرسة والديمقراطية” أهميته من كونه يمس جوهر العمل التربوي والذي تتشعب عنه العديد من القضايا والإشكالات، منها على الخصوص، إشكالية المساواة والإنصاف وتكافؤ الفرص في التعليم من حيث تعميمه وضمان استمراريته بالنسبة لجميع الأطفال، بمواصفات الحد الأدنى من الجودة، والذي يعني إكسابهم الكفايات الأساسية الضرورية لاندماجهم المهني والمجتمعي وضمان حقهم في المعرفة والتمكن اللغوي وتنمية المبادرة والتفكير النقدي لديهم جميعا دون أي تمييز.

كما يطرح هذا الموضوع إشكالية العلاقة والتواصل داخل المؤسسة التربوية بين مختلف الأطراف المستفيدة والمتدخلة من تلاميذ ومدرسين وإداريين وهيئة التفتيش… وإشكالية الحكامة في تدبير تلك المؤسسات وعموما في تدبير المنظومة التربوية بأكملها.

كما يسائل موضوع “المدرسة والديموقراطية” بالضرورة فلسفة التربية والتكوين والأهداف العامة للتعليم والأدوار التربوية للمدرسة ومسؤولياتها في ترسيخ مقومات المجتمع المغربي في سعيه الدؤوب نحو الديمقراطية وتحقيق ملامح الإنسان المغربي المنشود، من خلال التربية الأخلاقية والدينية والتربية على قيم المواطنة وحقوق الإنسان وواجباته، وتعميم فضائل السلوك المدني وسلوك التعايش والثقة والتسامح.

فلا أحد ينكر اليوم ما بين المدرسة والتربية عموما وبين الديمقراطية من تفاعل ومن علاقة جدلية، إذ لا يمكن الحديث عن التربية دون الحديث عن تكوين الشخصية المتشبعة بقيم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، ودون الحديث عن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والإيمان بالتعدد والاختلاف… وكما يقول الخمار العلمي: “لا تربية بدون ديموقراطية ولا ديموقراطية بدون تربية” (1).

كما لا يمكن الحديث عن التعليم والديمقراطية في غياب تعليم هادف يتسم بالجودة ويحترم شخصية المتعلم وخصوصياته ويعمل في نفس الآن على إكسابه كفايات التعلم المستمر والتثقيف الذاتي والبحث والاستكشاف في ضوء رؤية إبداعية ديمقراطية قائمة على أسس النظام والمسؤولية والانضباط والمواطنة، وترتكز في نفس الآن، على الحرية والمبادرة الفردية وسيادة الحوار الهادف والنقد البناء.

فالتأكيد على نمو المتعلم إنما هو تأكيد على تحرير ذكائه وقدراته الجسمية والنفسية من قيودها، وإتاحة الفرصة لها للانطلاق حتى تستطيع أن تستخدم بطريقة فعالة كل ما قد تتيحه البيئة من إمكانيات. ويصبح المجتمع الحر والديموقراطي، هو المجتمع الذي يشترك أفراده أيضا في تطويره وتوجيه التغيير نحو الأفضل.

ترتكز الديمقراطية، كما هو معلوم، على القانون والحق والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والاحتكام إلى مبادئ حقوق الإنسان وإرساء المساواة بين الأفراد والجماعات والأجناس في الحقوق والواجبات. كما ترتكز على الالتزام بالمسؤولية واحترام النظام وترجيح كفة المعرفة على منطق الاستبداد والقوة والسيطرة والعنف(2).

ويبقى الهدف النهائي المقصود من الديمقراطية هو تحقيق سعادة الإنسان، وتمكينه من فرص الشغل، وتحقيق حاجياته الأولية من غذاء وملبس ومسكن وصحة وسلامة…، وتلبية حاجياته الروحية والمعرفية والثقافية، وإخراجه من براثين الفقر والهشاشة إلى عالم أكثر رخاء واستقرارا وأمنا، يسمح بالعيش الكريم والمساهمة في التطور والابتكار والعطاء.

 

فما هي الوضعية في بلادنا، وما هي الصعوبات والاختلالات التي تواجه تطبيق الديمقراطية في مجتمعنا وتفعيل قيمها في الواقع التربوي؟ وهل تساير وتيسر منظومة التربية والتعليم الأسس والمبادئ التي تحدد العلاقة الجدلية بين المدرسة والديموقراطية؟

 

هذا هو السؤال/الإشكال المحوري الذي سنحاول الإجابة عنه في هذا الحوار، على أن نترك سؤال الحلول لتثبيت وسيادة الديمقراطية في المدرسة وآليات تفعيلها في المنظومة التربوية وفي المجتمع عموما، إلى مناسبة أخرى وذلك لأسباب خاصة، وسينتظم بالتالي حوارنا حول مجموعة من النقط الأساسية:

 

ما تقييمكم لحضور قيم المساواة وتكافؤ الفرص في نظامنا التعليمي؟

كان المغرب حريصا وربما سباقا، على مستوى القوانين والتشريعات التي سنها والمواثيق الدولية التي وقع عليها، خاصة المرتبطة منها بقطاعات الطفولة والتربية والتعليم، لإقرار هذه المساواة والتي نعتبرها الأساس في كل سياسة تروم دمقرطة التمدرس.

فقد حرصت الدساتير المغربية دائما، على تأكيد مبدأ المساواة ومبدأ تكافؤ الفرص أمام القانون وفى جميع الحقوق والواجبات وبحظر التمييز بين المواطنين بمعناه السلبي غير المشروع.

وأتى الدستور الجديد (يوليوز 2011) ليبلور هذا الحرص في العديد من النصوص. حيث نقرأ في  التصدير على سبيل المثال، الحديث عن “إرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة”.

وخارج الدستور هناك نصوص قانونية وتشريعات وتوصيات رسمية… كثيرة يمكن الاستشهاد بها، من مثل ما ورد في الميثاق الوطني للتربية والتكوين (الرباط، أكتوبر 1999) أو في البرنامج الاستعجالي (2009) وكلها تؤكد على ضرورة احترام مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص. كما أفردت الرؤية الاستراتيجية للإصلاح (2015-2030) والتي وضعها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، فصلا كاملا للموضوع وهو الفصل الأول: “من أجل مدرسة الإنصاف وتكافؤ الفرص”.

لكن وفي الحقيقة، تبقى هناك مساحة شاسعة بين النصوص والتشريعات وإعلان النوايا وبين ما يشهد به الواقع من قصور شديد في التطبيق. حيث تبقى دائما الحدود الفاصلة بين خطاب الوثائق والمواثيق والاستراتيجيات والأهداف المرسومة والمشاريع المخططة، وبين مدى تفعيلها وتطبيقها في الواقع وفي المدرسة المغربية وكما تقول عائشة بلعربي فيما يتعلق بحصول المرأة المغربية على حقها من الإنصاف، “اليوم، يتمثل أكبر تحدي ترفعه مختلف فعاليات المجتمع، في سعيها الدؤوب نحو ترجمة المساواة المكتسبة قانونيا، وتطبيقها في واقع الحياة اليومية”(3).

وعموما وحسب الاحصائيات الرسمية، يقدر المستوى المتوسط لتمدرس الساكنة المغربية البالغة من العمر 15 سنة فأكثر سنة 2010 ب4.7 سنة تمدرس في المتوسط. وقد عرف هذا المستوى زيادة تناهز سنة واحدة كل عشر سنوات منذ سنة 1982، ولكنها تظل أدنى من المستوى المتوسط الملاحظ في البلدان النامية 7,1)سنة( والبلدان المتقدمة11) سنة( (3).

تثبت البيانات أن تطبيق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، كحق داخل المدرسة المغربية، لا يتعدى بعض المستويات الأولية والشكلية..

تثبت هذه البيانات أن تطبيق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، كحق داخل المدرسة المغربية، لا يتعدى بعض المستويات الأولية والشكلية وفي المنطلق، من مثل، المساواة بين الذكور والإناث في الالتحاق بالمدرسة، أو تكافؤ الفرص بتهيئة بعض الظروف البيداغوجية والكتب المدرسية ليستفيد منها مبدئيا معظم المتعلمين.

نعم إن مثل هذه الإجراءات أساسية خاصة بالنسبة لتكافؤ الفرص بين الإناث والذكور، لما تعرفه المرأة المغربية وتعاني منه من ظلم وحيف، لكن تلك المبادئ الحقوقية ينبغي أن تذهب إلى أبعد من ذلك بالنسبة لتمدرس الأطفال ذكورا وإناثا والظروف التي يتم فيها استقطابهم والاستمرار في تعليمهم؛ لأننا نلمس واقعا وسياقا مليئا بالمفارقات والنقائص، والتي ترجع أساسا إلى الاختلالات المجتمعية والاقتصادية  والتي يأتي بها الأطفال من أسرهم وخاصة من يعاني منهم من ظروف الهشاشة والتمييز وتجعل من المستحيل الحديث عن  مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص بينهم.

الدلائل تشير إلى أن المدرسة المغربية مدرسة غير منصفة، تعمق التفاوت واللامساواة مما تؤكده نتائج الاحصاءات والدراسات، بل على العكس، وصلت إلى حالة فرض وترسيخ التفاوت بين فئات المجتمع

فضلا عن وجود من يشكك في النتائج والأرقام المعلن عنها ويعتقد بأنه “يتم تجميع معطيات حول منجزات مشاريع برامج إصلاح التعليم، حيث يصبح العمل المطلوب (في بعض الأحيان) تعبئة أرقام على ورق ليس لها أي ارتباط بالواقع، بالإضافة لبعض التجاوزات التي تتم في إطار التدبير الإداري خارج الفرق المسؤولة عن تتبع بعض مشاريع الإصلاح، سواء إقليميا أو جهويا، وبالتالي تطرح مصداقية الأرقام المعلن عنها في الإنجازات”.(4)

كل الدلائل تشير إذن، إلى أن المدرسة المغربية مدرسة غير منصفة، تعمق التفاوت واللامساواة مما تؤكده نتائج الاحصاءات والدراسات، بل على العكس، وصلت إلى حالة فرض وترسيخ التفاوت بين فئات المجتمع، وتبقى بذلك في منأى عن تحقيق مبادئ الديموقراطية الحقة في منظومة التعليم. وهو واقع يعكس فلسفة تنأى عن المشاركة والتسيير الذاتي وعن اللاتوجيهية وتعكس تعثر منظومة حقوق الإنسان ممارسة وسلوكا بسبب ضعف الديمقراطية في المجتمع على جميع الأصعدة والمستويات.

 

هل هناك دراسات وأبحاث تعزز ما أقررتم من ضعف التزام المدرسة المغربية بمبدأي الديمقراطية والمساواة؟

 

هناك معطيات أخرى لها دلالتها بالنسبة لما نحن بصدده والتي تثبت لا تكافؤ فرص التعليم وبالتالي لا ديمقراطيته، نشير إلى بعضها على سبيل المثال:

الدراسة الهامة التي أنجزها الباحث عبد القادر طيطو في المندوبية السامية للتخطيط، والتي نشرها في دفاتر التخطيط (العدد رقم 33، يناير/فبراير 2011) تناول فيها إشكالية  “الحركية المدرسية عبر الأجيال”، من خلال التساؤل عن مدى تحقيق المدرسة المغربية لترقي اجتماعي بين التلاميذ، أم أن المدرسة أصبحت أداة “لإعادة الإنتاج” أي المحافظة على الأوضاع كما هي، ولا  تعمل سوى على تركيز الرأسمال الثقافي في يد نخبة محدودة من المجتمع، بعدما احتكرت رأسمالا ماديا؟

لقد تمكن هذا الباحث للجواب عن سؤاله المحوري، من تقديم نتائج تثبت وضعية اللامساواة تلك، حيث توصل إلى أنه “إذا أخذنا طفلين أحدهما لأب مستواه التعليمي لم يتجاوز الأساسي، وآخر وصل أبوه إلى المستوى العالي،  فإن حظوظ الثاني تتضاعف إلى 69 مرة عن الأول لولوج المستوى العالي من التعليم”.

كما أبرز المفارقات الجلية بين الوسطين الحضري والقروي وبين الرجال والنساء، ولتوضيح ذلك، فإن الأرقام تكشف عن هذه الوضعية المزرية، فمثلا “لم تتحسن نسبة الفئة العمرية التي تقل عمرها عن 20 سنة في مستوياتها الدراسية، خصوصا الجامعية منها إلا ب 7,1 في المائة سنة 2007 بعدما كانت 2,4 سنة 1985، وللتدقيق أكثر فإن الوسط القروي لم يحقق إلا تطورا محتشما بل جد ضعيف، حيث انتقل من 1 في المائة سنة 1985 إلى 4,2 في المائة سنة 2007 في نسبة الذين يتوفرون على مستوى الثانوي من الفئة العمرية التي تقل اعمارها عن 20 سنة.

وفي هذا السياق وكمثال على ما نحن بصدده من استنتاجات، وضعت دراسة منجزة من طرف مركز برشلونة للقضايا الخارجية Cidob،Barcelona، (2015) يدها على ما أسمته “معيقات التنمية الاقتصادية بالمغرب”، وعلى رأسها الفوارق الشاسعة بين جودة التعليم الذي يتلقاه أبناء الأسر الغنية من جهة، وطبيعة النظام التعليمي الذي يتلقاه أبناء الفئات الفقيرة، من جهة ثانية. فإذا كانت الفئة الأولى تتوفر على فرص متابعة دراستها بالخارج فإن الفئة الثانية تعاني من ضعف في التعليم وصعوبة في إيجاد عمل، حسب خلاصات هذا المركز الإسباني.

وقالت هذه الدراسة الحاملة لعنوان: “النمو بالمغرب بطيء وهش لكنه حقيقي”، أن النخبة المغربية تحصل على تعليم جيد لأنها تلجأ أولا إلى مدارس البعثات الفرنسية قبل أن تسافر للخارج لاستكمال دراستها الجامعية، سواء إلى فرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية، و”حين عودتهم إلى المغرب فإنهم يحوزون مناصب عليا في المؤسسات البنكية وفي الشركات، بينما يذهب جزء بسيط منهم إلى الوظيفة العمومية”.

وفي المقابل، تحدثت الدراسة على أن مستوى النظام التعليمي المقدم إلى فئات واسعة من أبناء المغاربة تبقى “جد ضعيفة”، مما دفعها إلى التأكيد على أن الفرق في المستوى التعليمي بين النخبة وبقية أفراد المجتمع المغربي “تجعل الاقتصاد يدفع الثمن غاليا”.

ونبهت نفس الدراسة إلى أنه في الوقت الذي يحاول المغرب الانفتاح على أسواق اقتصادية جديدة، لفرض نفسه كقوة اقتصادية في المنطقة، فإن ما يعيق هذا التوجه هو ضعف المستوى التعليمي المقدم إلى الشباب المغاربة، بل إن الدراسة تضيف “أن هناك مؤسسات اقتصادية كبرى تلجأ إلى توظيف الأجانب، وأن أغلب الشبان المتحصلين على ديبلومات عالية يغادرون إلى خارج المملكة”.

ومثل هذه المعطيات وغيرها مما لاحظناه بأنفسنا، يجعلنا نعتقد أن تحقيق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص وبالتالي الديمقراطية في المدرسة، لن يتأت إلا من خلال تحقيق العدالة المجتمعية أولا وأساسا فلا يمكن أن تكون المدرسة عادلة في مجتمع غير عادل، كما لا يمكن أن نعول على المدرسة لتحل جميع مشكلاتنا الاجتماعية.

إننا نلاحظ تفاوتا صارخا بين مدرسة الأغنياء والمحظوظين (مدارس البعثات والمدارس الخصوصية الراقية)، ومدرسة الفقراء (المدارس العمومية عموما) التي توجد غالبا في الأحياء الهامشية والفقيرة وفي المجال القروي. بل حتى في المدارس العمومية نجد تمايزا دالا بين مدرسة الأحياء “الراقية” ومدرسة الأحياء الشعبية، ومدرسة العالم القروي المهمش والفقير… إن كل مدرسة منها تتميز عن الأخرى في جودة خدماتها البيداغوجية وبنياتها التحتية وخصوصياتها البشرية وكفاءة والتزام أطرها ونتائجها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *