لا يجد المرء غضاضة حينما يرى تبجّح كثير من المادحين لهذه الشخصية المتمردة على الشرع والأعراف الصحيحة بأنها: سيدة الفكر النسوي الحداثي العربي، وبأنها المفكرة المغربية التي فكّكت المتخيّل الذكوري… وبأنها صوت فريد يُسمِع أصوات كل النساء.. وغيرها من عبارات الإطراء والمبالغات المزاجية، كل ذلك وغيره أعطاها هذه الصورة البراقة كونها “تجتهد” خارج الضوابط والمعالم الشرعية التي حددها سادتنا العلماء في شتى فنون الشريعة الإسلامية، ولا نجد غرابة بأن ينعتها البعض بأنه يعود لها الفضل في توظيف نقد الحديث لأول مرة لمصلحة النقد النِّسوي، ما أعطى النساء المسلمات الجرأة على التساؤل والتشكيك بالتفسيرات الماضية، والجرأة على التأويل لاستعادة حق مشاركة المرأة في السياسي وغير السياسي..؟!( ).
حين ظهرت الترجمة الإنجليزية عن الفرنسية لكتاب فاطمة المرنيسي الشهير «الحريم السياسي: النبي والنساء»، سنة (1987) تحت عنوان: «الحجاب والنخبة الذكورية: التفسير النِّسْوي لحقوق المرأة في الإسلام» (1991)، كان هذا الظهور حدثاً على مختلف الأصعدة، ولا ننسى في مؤتمر «اتحاد الدراسات الشرق أوسطية» الذي عقد في نورث كارولاينا بأمريكا عام 1994 كيف استُقبِلت المرنيسي وكأنها تُتوَّجُ على “عرش بلقيس”. ولا ننسى كيف حذّرَت إحدى النساء المسلمات من قراءة الكتاب خوفاً عليهنَّ من التعرّض “لأزمة إيمان”.
وتقع أهميّة العمل من منظور الفكر الحداثي العلماني:
أولاً: في أنه يُعتبر من أولى الدراسات في النقدية النِّسوية للتراث في الإسلام.
وثانياً: أنه تبنّى منهجية نقدية تطبّق لأول مرة على الأحاديث التي أساءت – حسب زعمهم- إلى قُدُرات المرأة العقلية وكرامتها الإنسانية. وانصبّ اهتمام المرنيسي في هذا العمل على البحث في أسباب مشاركة المرأة السياسية الضئيلة في الإسلام… وضرورة تمردها على سلطة الرجل لتنافسه في كل الميادين، وعلى رأسها الحكم أو العرش بمفهومنا المعاصر.
وتُعتبر المرنيسي في العصر الحديث أول من استخدمت علم الرجال، أي: استخدمت علم الجرح والتعديل لنقد الأحاديث التي وُضعت على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم. ولعل حديث (لن يفلح قوم..) حظي بحصة الأسد من الجرح والتعديل الذي لم يسبق له مثيل عند أي عالم من علماء المسلمين في الحديث. مما جعلها تذكر دون تردد بأنه: «حجّة أو مطرقة بأيدي الذين يريدون إقصاء المرأة من السياسة».
يقول أحد المعجبين بفكرها “الثاقب”: (حاولت فاطمة المرنيسي في عملها الشهير “الحريم السياسي: النبي والنساء”، إعادة الجدل إلى مجاله التاريخي، مقتفية الوقائع المادية التي يفترض أن يكون ورد فيها الحديث… لعل جرأتها هاته في ابتداع نهج غير مألوف عند “علماء” الفقه التقليديين، سبب رئيسي في الضجة التي قامت حول مؤلفها والإدانة التي تعرضت لها باسم المعايير الدينية..)( ).
ويوجه اللوم هذا النكرة إلى الفقه الإسلامي السني الذي يعتمد على صحيح البخاري كمصدر موثوق لرواية الأحاديث الشريفة والعمل بها، كما يلقي باللائمة على المنهج السلفي الذي يعتمد مناهج وقواعد في الرواية والدراية، وبالتالي يعتبره أنه حجرة عثراء في طريق التحرر من الفهم الصحيح للأحاديث، خصوصًا ما يتعلق بالمسائل الحساسة المرتبطة بالمرأة مثل: موضوع الحكم والقوامة ونحو ذلك؟!
والخلاصة التي يصل إليها هذا المفتري من قراءته التراثية الحداثية المعاصرة لهذا الحديث بناء على فهم وتحليل المرنيسي: أن الحديث عقبة كؤود في تحرر المرأة من سطوة الرجل اليوم، وأنه لا مبرر كي لا تصل المرأة إلى سدة الحكم والقضاء والوزارة والبرلمان وكل المناصب السيادية الكبرى في دواليب الدولة، وأن الحديث مثار الجدل يجوز أن يُحصر في حدود الحدث التاريخي الذي جاء فيه فقط، أي: بخصوص ما ورد ذكره عن ابنة الامبراطور الساساني لما توفي أبوها وولّوها أميرة على عرش الإمبراطورية الساسانية، وبالتالي -حسب زعم هؤلاء- أن هذا الحديث الذي رواه أبو بَكرة ينطبق فقط على تلك المرحلة التاريخية، أما في زمننا اليوم فالمرأة لا بد أن تكون إلى جنب الرجل في سدة الحكم، ويفسح المجال لهن ليقتحمن هذا الصراع وترتفع تمثيليتها في البرلمان دون أي حاجة لضوابط الدين، أو فهم الدين، أو تنظيم الدين…؟! ( ).
ولا نجد غرابة من أمثال هؤلاء في هذا الفهم والزعم، فهم كُثر في كل زمان ومكان يطلّون علينا كالخفافيش بين الفينة والأخرى، وقد تلبسوا في زماننا بلبوس العلم والمعرفة والمنهجية العلمية دون أن يفقهوا من ذلك شيئاً، وقد سبقهم “مشايخهم” وقادتهم لهذا الأمر، ومن هؤلاء أذكر هنا: الدكتور محمد عبد اللطيف مشتهري (مدير عام المركز العالمي للدراسات القرآنية)، حيث أطلق العنان لنفسه مهاجماً صحيح البخاري ومسلم، ومتجاهلاً نظرة علماء الأمة سلفاً وخلفاً لهما وإجلالهما وإنزالهما في أول درجات الصحة بعد القرآن الكريم فيقول دون استحياء: (البخاري ومسلم بشر مثلنا يصيبون ويخطؤون، والكتاب الوحيد اليقيني الثبوت هو القرآن، وكل ما عدا ذلك ظني الثبوت، ويؤخذ منه ويُردّ عليه)( ).
بل ويجعل سبب صحة القرآن الكريم ليس التواتر، ولكن دراسته له وقناعته به( ).
من خلال ما سبق الحديث عنه بإيجاز، أقدّمُ التساؤل الـتالي:
على ماذا يبني الفكر اللبيرالي العلماني الحداثي تصوراته وأفكاره وقراءاته المعاصرة للدين وقضاياه المتعددة؟
وبالتأمل -ولو قليلاً- ومن خلال ما يتناوله هذا الفكر من قضايا وسجالات وجدالات وشبهات وتلبيسات يراهن الكثير من العلمانيين في نشر أفكارهم وأغاليطهم على جهل الكثير من المسلمين وعدم امتلاكهم المنهج والعقلية النقدية التي يمكن بها أن تفحَص وتمحّص ما يُقال، الأمر الذي يجعلها مستعدة لاستقبال كل ما يتم تقديمه، خاصة وأن أغلب ما يقدّمه هؤلاء العَــلمانـيون يخرج بصيغة وأسلوب لغوي يكتنفه الغموض، ويَلُفُّه التعقيد الذي يصعب معه إدراك كنهه وحقيقته.
ولا يملُّ هؤلاء في الحقيقة من تكرار شبهاتهم ودعاواهم وهرطقاتهم الفكرية -هذا إن ارتقت إلى أن تكون فكرية-؛ إذ نجدهم في حالة إصرار غريب على ترديد مقولاتهم بالرغم من أنها تعرضت مراراً وتكراراً للتفنيد والكشف عن تهافتها وعدم مصداقيتها العلمية.. بما يؤكد تورط هؤلاء في مؤامرة كبيرة ضد الإسلام والقيم والهوية الإسلامية في كل زمان.
كذلك فإن الكثير من هؤلاء العلمانيين/الحداثيين يتبنون أفكار المستشرقين الغربيين بحذافيرها، و”يجتهدون” في صياغتها وترجمتها والإشادة بها في كل محفل، والذين خاطبوا بالأساس شعوبهم التي لا تؤمن بالإسلام في محاولة منهم لتثبيت أقدامهم على مواقفهم المعادية للإسلام، ولكون هذه الشعوب ليس لديها علاقة تماس مع حضارة الإسلام أو خلفية ثقافية عن الإسلام؛ الشيء الذي سهّل عملية تشويه الإسلام لديها، لكن هؤلاء العَـلمانيين الذين يدّعون الـعقلانية والتنوير زوراً وبهتاناً قاموا بنقل هذه الأفكار المسمومة للمسلمين بعد أن غلّفوها ووضعوها تحت عناوين مُغرية، كالإصلاح الديني، والفكر المستنير، وقيم حرية الرأي والتعبير!! وحقوق المرأة..!؟ وحقوق المساواة..؟! وغيرها من الأفكار العقلانية الدخيلة والمسمومة، والتي لا يلبثوا أن ينقلوها بكل الوسائل المتاحة إلى العوام والأجيال الصاعدة..