جوامع الكلم في القرآن الكريم -الحلقة الثانية- حسن بنعباس

 

الإيجاز وجوامع الكلم
حد الإيجاز: هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف( ).
أو هو تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى( ).
والإيجاز قسمان:
1- إيجاز حذف: وهو إسقاط كلمة للاجتزاء عنها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام.
2- إيجاز قصر: وهو بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف( ).
ومن الإيجاز أيضا: احتمال المعاني وتنوعها في اللفظ الواحد، ومنه ما يسمى بالتقدير، وهو ما ساوى لفظه معناه( )
وخلاصة ما ذكر: أن الإيجاز ينقسم قسمين:
ـ أحدهما: الإيجاز بالحذف، وهو ما يحذف منه المفرد والجملة أو النص لدلالة فحوى الكلام على المحذوف، ولايكون إلا فيما زاد معناه على لفظه.
ـ ثانيهما: مالا يحذف منه شيء، وهو ضربان:
أـ ما ساوى لفظه معناه، ويسمى التقدير.
ب ـ ما زاد معناه على لفظه، ويسمى القصر( ).
وقيل: ماساوى لفظه معناه واسطة بين الإطناب والإيجاز، وهو غير محمود ولا مذموم عند السكاكي وجماعة، لأنهم فسروها بالمتعارف من كلام أوساط الناس الذين ليسوا في رتبة البلاغة( ).
إذن: فالكلام القليل إن كان بعضاً من كلام أطول منه، فهو إيجاز حذف، وإن كان كلاما يعطي معنى أطول منه، فهو إيجاز قصر.
من خلال ما تقدم يمكن أن نلمس النسبة بين الإيجاز وجوامع الكلم وهي العموم والخصوص من وجه، فيجتمع جوامع الكلم مع الإيجاز فيما سمي بإيجاز القصر، وينفرد جوامع الكلم في كونه يكون في الكلمة الواحدة وفي النص، ويفترق الإيجاز عن جوامع الكلم فيما سمي بإيجاز الحذف.
وقد أشار السيوطي إلى هذا حيث قال: قال بعضهم: إيجاز القصر هو كثير المعنى بتقليل اللفظ.
وقال آخر: هو أن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من القدر المعهود عادة، وسبب حسنه أنه يدل على التمكن في الفصاحة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “أوتيت جوامع الكلم”( ).
ومنهم من جعل الإيجاز الجامع غير إيجاز القصر، فقسم الإيجاز الخالي من الحذف ثلاثة أقسام:
أحدها: إيجاز القصر: وهو أن يقصر اللفظ على معناه، كقوله تعالى: “إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم…” النمل 31، إلى قوله: “واتوني مسلمين” جمع في أحرف، العنوان والكتاب والحاجة.
الثاني: إيجاز التقدير: وهو أن يقدر معنى زائد على المنطوق، ويسمى بالتضييق أيضا، ومنه قوله تعالى: “فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف” البقرة 275، أي: خطاياه غفرت، فهي له لا عليه.
الثالث: -وهو المقصودـ الإيجاز الجامع: وهو أن يحتوي اللفظ على معان متعددة نحو قوله تعالى: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان…” ( ).

المبحث الثالث:عناية العلماء بجوامع الكلم
من المعلوم أن لفظ جوامع الكلم أصلها حديث نبوي، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب… الحديث”( ).
وقد اختلف العلماء في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: “بعثت بجوامع الكلم” أهو القرآن أم الحديث، لكن الحافظ ابن حجر رحمه الله حصر الخلاف في الحديث فقط، بعدما سلم بدخول القرآن الكريم.
فقال رحمه الله بعد أن ساق رأي البخاري رحمه الله في المسألة وأن الرأي الراجح عند البخاري هو القرآن الكريم، قال: وليس ذلك بلازم، فإن دخول القرآن في قوله: “بعثت بجوامع الكلم” لاشك فيه، وإنما النزاع هل يدخل غيره من كلامه من غير القرآن( ).
ومن ترجح عنده دخول الحديث النبوي في جوامع الكلم سعى لتبين ذلك وإظهاره.
فكانت عناية الأئمة بالأحاديث الجامعة -جمعاً وشرحاً- عناية فائقة، فألفوا فيها الكتب وألقوا الدروس…
ومن هؤلاء الأعلام: أبو بكر بن السني الذي صنف كتاب “الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة”.
وجمع القاضي أبو عبد الله القضاعي من جوامع الكلم كتابا سماه “الشهاب في الحكم والآداب”.
وصنف على منواله قوم آخرون.
وأشار الخطابي في أول كتابه “غريب الحديث” إلى بعض الأحاديث الجامعة.
وأملى الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلسا سماه “الأحاديث الكلية” جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال: إن مدار الدين عليها، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة، وعمد أبو زكرياء يحيى النووي إلى الأحاديث التي أملاها أبو عمرو بن الصلاح، وزاد عليها وألف الأربعين النووية وقد أضاف إليها أبو الفرج بن رجب الحنبلي أحاديث جامعة أخرى( ).
وممن ألف في الموضوع أيضا: أستاذنا عبد الرحمن بودرع كتابه “جوامع الكلم في البيان النبوي” ثم زاد فيه أشياء مهمة، وأخرجه في حلة جديدة، بعنوان “الإيجاز وبلاغة الإشارة، البيان النبوي”.
ولما رأيت العلماء أولوا عناية كبيرة للحديث النبوي من هذا الجانب تاركين الأصل -فيما أعلم- الذي هو القرآن ربما للأسباب التي ذكرت، حاولت ما أمكن أن أعطي لمحة خفيفة في هذا المجال عساه يكون البداية إن شاء الله تعالى.
وجوامع الكلم في القرآن أقسام، لأن لفظ “جوامع” كما تقع على القطعة من الكلام، أو الجمل، أو الجملة المركبة من ألفاظ يسيرة، تقع أيضا على اللفظ المفرد الذي هو نواة الجملة، وسأبين ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى في العدد القادم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *