توجيهات قرآنية في الحث على أدب المعاملة   د. عبد العزيز وصفي باحث في العلوم الشرعية والاجتماعية

 

كثيرة هي التوجيهات القرآنية التي تحث على الالتزام بالأدب في التعامل مع الآخرين، وسنحاول فيما يلي أن نذكر بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر:

 

  1. النهي عن فضول الكلام والخوض في الباطل

حثَّ القرآن الكريم على الابتعاد عن فضول الكلام وعدم الخوض في الباطل، والالتزام بهذا التوجيه القرآني مِنْ شأنه أنْ يَصُبَّ في بناء مجتمعٍ متماسكٍ يبتعد فيه الناس عن الثرثرة والإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه. قال تعالى: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[1]. فهذه الآية القرآنية تُوجِّه المؤمنين إلى أنْ يكون كلامُهم هادفاً، فإنَّ من شأن المسلم الواعي ألا يخوض فيما لا يعنيه، وألا يُكثر من الكلام المباح غير الهادف والذي لا خير فيه، فإنَّ الوقت أثمن من إضاعته في فضول الكلام وهَذَرِه.

وكثرة الكلام تؤدي إلى قسوة القلب، فقد وَرَدَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: »لا ُتكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنَّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوةٌ للقلب، وإنَّ أبعد الناس من الله القلب القاسي«[2]. ولا شكَّ أنَّ قسوة القلب مع الله تؤدي إلى قسوته مع الناس، مما يُلقي بظلاله السيئة على الاتصال بالآخرين، وعلى العلاقات الإنسانية بشكل عام.

             2- النهي عن السب والفحش في القول

ونتيجة لهذه الآثار السيئة التي يتركها السباب وفحش القول على العلاقات الإنسانية، جاء التوجيه القرآني ليحث على تجنب النطق بالألفاظ البذيئة، والكلمات المبتذلة. قال تعالى: ﴿لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا[3]. وفي آية أخرى نصَّ القرآن الكريم على أن إيذاء المؤمنين بالقول السيئ دون وجه حق، يترتب عليه إثم عظيم. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا[4].

 

  1. الحث على الصَّمت وحُسْنِ الاستماع

الصمت وحُسن الاستماع مهارة لابد من إتقانها، لما لذلك من أهمية كبرى في بناء العلاقات الإنسانية بين الأفراد والجماعات، وهي وسيلة مُجدية في إيجاد الفهم المتبادل بين الناس، ومساعدتهم في حلِّ مشكلاتهم، والتخفيف من آلامهم، وما يحسون به من ضيقٍ وحزن.

وقد نبَّه القرآن الكريم إلى ضرورة حُسن الاستماع. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الألْبَابِ[5]. قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن ويَنْكَفُّ عن القبيح فلا يتحدث به[6].

جاء في كتاب «فن التفاوض» لوليام أوري ما نَصُّهُ: “إنَّ الإنصات عظيم الفائدة، فهو يفتح لك نافذة لترى ما يدور في عقل الطرف الآخر، كما يجعل الطرف الآخر على استعداد للإنصات إليك. فلو أنَّ الطرف الآخر كان غاضباً أو قلقاً، فلماذا لا تحاول أنْ تستمع إلى شكواه. لا تقاطعه حتى لو شعرتَ أنه مخطئ، أو أنه يهينك. ويمكنك أنْ تُشْعره بإصغائك إليه عن طريق تركيز نظرك عليه، أو هزّ رأسك من آنٍ لآخر، أو ترديد عبارات مثل: «نعم، نعم» أو «أنا أفهم ما تقصده» وعندما ينتهي من حديثه، اسْأَلْه بهدوء إن كان لديه شيء آخر يريد أن يضيفه، وشجعه على أنْ يُفضي إليك بكل ما يضايقه، بأن تقول لـه مثلاً: «من فضلك استمر في حديثك» أو «ماذا حدث بعد ذلك؟». وبمجرد أنْ تُنصت لما يريد الطرف الآخر أنْ يقوله، فغالباً ما سيؤدي ذلك إلى تهدئته، ليصبح أكثر تعقَّلاً وأكثر استجابة بشأن حل المشكلة، واستصدار القرار المطلوب، فليس من قبيل الصدفة أنَّ أفضل المحاورين غالباً ما يستمعون أكثر مما يتكلمون”[7].

ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ براعة الإنصات تكون بالأذُن، وطرف العين، وحضور القلب، وإشراقة الوجه، وعدم الانشغال بتحضير الردّ، وعدم الاستعجال بالردّ قبل إتمام الفهم. فإنَّ كثيراً من الناس يخفقون في ترك أثرٍ طيِّب في نفوس من يقابلونهم لأول مرة، لأنهم لا يُصغون إليهم باهتمام، إنهم يستمعون بنصف أُذُن، ويحصرون همهم فيما سيقولونه لمستمعهم، فإذا تكلَّم المستمع لم يُلقوا لـه بالاً، عِلْماً بأنَّ أكثر الناس يُفضِّلون المنصت الجيد على المتكلم الجيد[8].

يقول دايل كارنيغي Dale Carnegie في كتابه القيم «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس»: “إذا كنتَ تريد أنْ ينفضَّ الناسُ من حولك، ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك، فهاك الوصفة: لا تُعطِ أحداً فرصة الحديث .. تَكَلَّم بغير انقطاع .. وإذا خَطَرَت لك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يُتم حديثه، فهو ليس ذكياً مثلك، فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف؟ اقتحم عليه الحديث، واعترض في منتصف كلامه”[9].

 

ومن حُسن الاستماع أنه إذا كان السامع عالماً بكلام المتحدث، فإنه ليس من الأدب مقاطعته ومداخلته فيه، بغرض الإظهار للآخرين معرفة هذا الحديث والعلم به. قال عطاء بن أبي رباح: إنَّ الشاب ليحدثني بحديث، فأستمع له كأني لم أسمعه، ولقد سمعتُه قبل أنْ يولد[10].

ومن حُسن الأدب أيضاً، أنه إذا أشكل على المستمع شيء من كلام محدِّثه، فإن عليه أنْ يصبر حتى الانتهاء من الحديث، ثم يستفهم منه بأدب ولطف وتمهيدٍ حَسَنٍ للاستفهام، ولا يقطع عليه كلامه، فإنَّ ذلك مخلٌّ بأدب الاستماع، إلا إذا كان المجلس مجلس دراسة وتعلُّم، فإن له حينئذٍ شأناً آخر، ويحسن فيه السؤال والمناقشة عند تمام الجملة أو المعنى الذي يشرحه المعلِّم، وينبغي أنْ تكون المناقشة فيه بأدب وكياسة[11]. قال الهيثم بن عَدي: قالت الحكماء: من الأخلاق السيئة مغالبة الرجل على كلامه، والاعتراض فيه لقطع حديثه[12].

ومن الأدب في هذا السياق كذلك، أنه إذا سُئل شخصٌ عن شيء، فإنه لا يحسن بغيره أنْ يبادر إلى الإجابة، بل ينبغي أنْ لا يقول شيئاً حتى يُسأل عنه، فإنَّ ذلك أحْفَظُ للأدب وأرفع للمقام. رُوي عن مجاهد أنَّ لقمان قال لابنه: إياك إذا سُئل غيرك أنْ تكونَ أنتَ المجيب، كأنكَ أصبتَ غنيمة، أو ظفرت بعطيَّة، فإنك إنْ فعلتَ ذلك، أَزْرَيْتَ بالمسؤول، وعَنَّفت السائل، ودَللْتَ السفهاءَ على سفاهة حلمك، وسوء أدبك[13].

————————————————

[1]   النساء: 114.

[2]  رواه الترمذي وقال: حسن غريب. انظر: السنن، كتاب الزهد، باب )61(، حديث رقم 2411، ج4، ص607.

[3]  النساء: 148.

[4]  الأحزاب:58.

[5]  الزمر:17.

[6]القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج15، ص244.

[7]  أوري، وليام: فن التفاوض، ترجمة: نيفين عزاب، ص(67- 68).

[8]  انظر: ديماس، محمد: فنون الحوار، ص35، ص38.

[9]  كارنيغي، دايْل: كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس، ص79.

[10]  المقدسي، ابن مفلح: الآداب الشرعية والمنح المرعية، ج2، ص118.

[11]  انظر: أبو غدة، عبد الفتاح: من أدب الإسلام، ص65.

[12]  المقدسي، ابن مفلح: الآداب الشرعية والمنح المرعية، ج2، ص119.

[13]  المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *