جميل أن تقرأ، والأجمل أن تعرف كيف تقرأ، ومتى تقرأ، وماذا تقرأ. والأبهى أن تجد كلّ ذلك بين دفّتي كتاب، يكون لك كالبوصلة التي تحدّد سيرك في مضمار القراءة، وتُرشدك لأقوم السبل للاستفادة منها. هذا ما أفدته وأنا أقرأ الكتاب الماتع لفهد بن صالح الحمود ( قراءة القراءة )، كتابٌ قيم ومفيد لكل قارئ وطالب علم، وعنوانه يَشِي بمضمونه ويُفصح عن فحواه، وكأنّ صاحبه يهتف في أعماقك: هيّا لتقرأ كيف يجب أن تقرأ.. هيّا لتسبر معي أغوار هذه المتعة الدائمة التي يُقال لها القراءة، لتأخذ كامل حظك منها.
استهل الكاتب مؤلَّفه بالحديث عن أسباب العزوف عن القراءة في وطننا العربي فركّز بدءًا على الحاجز النفسي المرتبط بكراهية فعل القراءة، ثم غياب دافع قوي للانشغال بها، و أخيرا غياب نشاط القراءة كعمل من الأعمال اليومية. واقترح حلولا لتخطّي هذه العقبات، منها:
* محاولة شحن النفس بإيحاءات إيجابية تحفزها على القراءة. لتجاوز العقبة النفسية.
* إيجاد دافع نحو القراءة: فالكثير من الناس يلهث خلف شهواته ونزواته وما يحقق له مطامع مادية، ويغفل كثيرا عن القراءة غير مستحضر لقيمتها ومكانتها الشرعية، واستحضار هذا العامل الشرعي أكبر محفز للقراءة لو كان بالنفس بعض إيمان.
* تكوين عادة القراءة حتى تصبح فعلا يوميا عند المواطن العربي، يمارسه كما يمارس سائر عاداته التي تطبّع بها بسبب التكرار والتعود.
* الانخراط في القراءة الجماعية كنشاط محفز، وقد عدّد الكاتب بعض فوائدها.
* العمل على توفير الكتاب والتمرّن على اقتنائه كما تُقتنى سائر الأغراض المنزلية سعيا لتأسيس مكتبة منزلية تكون باعثا وحافزًا على القراءة.
* توفير وقت للقراءة واقتطاعه من النشاط اليومي والمواظبة عليه ولو ربع ساعة في اليوم.
* مجالسة عشاق القراءة والاحتكاك بهم. فأحيانًا القراءة تُعْدي ولكنها لا تُؤْذي.
فإن استطعت أيها المتقاعس أن تقهر كل هذه العقبات، وأحببت الإقبال على القراءة، والانخراط في سلك المدمنين عليها، فأقبل ولا تخف، وخذ ببعض النّصح واسترشد بما قاله المؤلف وهو يتحدث بإمتاع عن خطوات القراءة. وواضعا نصب عينيك خريطة طريق للقراءة، وتريّث ولا تستعجِلْ، فقد بلغت خطواته خمسَ عشرة خطوة:
أولها الاحتساب: أي استحضار الجانب الديني في القراءة بأنْ يبتغي القارئ بها وجه الله تعالى. إذ استصحاب الاحتساب دافع قوي نحو القراءة والمداومة عليها.
ثانيهما التأسيس: فالقراءة (إذا كانت مبنية على أساس صحيح لا يتصدّع، وقاعدة صلبة لا تنخرم، وكان التكوين الفكري والعقدي للقارئ سليما، فإن هذا لا ريب يحميه في مستقبل أيامه من الموجات والتيارات المتعددة، بل يكون هذا دافعا له إلى القراءة الواعية الناضجة).
وتأسيس وعي ثقافي وفكري للناشئة يكون بأمرين:
* حضور مجالس أهل العلم ودروسهم خاصة تلك المجالس التي تكون في أصول العلوم وأساسياتها.
* قراءة الكتب التأصيلية للعقيدة الأصيلة في العقيدة والشريعة قراءة ضبط وتحصيل ودرس دون الاستغناء التّام عن موجِّهٍ من أهل العلم. مع تجنب الكتب التي ضررها أكثر من نفعها لأن (الكتب كما تقوّم أود الفكر وترعى تجلياته، فإن منها ما يمرضه ويعطبه)، وما انحرافات وانزلاقات المفكرين والأدباء اليوم إلا من اعتمادهم على الكتب مباشرة في غياب علم يرشدهم، أو دين يزجرهم.
وثالث هذه الخطوات تسطير الهدف من القراءة والذي يحدد منهجية التعامل معها ومدى الاستفادة منها، وقد نبّه الكاتب لبعض أهداف القراءة منها:
* القراءة من أجل التسلية وتزجية الوقت، وهذا الضرب من الأهداف يجعل القارئ يتجه صوب الكتابات السهلة والميسورة كالروايات، وغير مهتم بتدوين ما يصادفه من فوائد ونفائس، لهذا يبقى غير ذا قيمة إن كان هدفه قتل الوقت فحسب، إلا أن يكون من باب الإحماض والاسترواح عند القراء الجادين، لتكون دافعا لقراءات أخرى جادة ومثمرة.
* القراءة من أجل الاطلاع على معلومات أو تنمية مهارات. وهذا دأب الباحثين والراغبين في الاستزادة من معلومات حول موضوعات بعينها، وبهذا المبحث توجيهات مهمة لكل طالب باحث.
* القراءة الاستيعابية: التي تتجاوز المرحلة السابقة فلا تكتفي بالبحث عن المعلومة وتقفّي أثر الأحداث، بقدر ما تسعى لفهم مغزاها وقراءة تجلياتها.
ولكي تكون علاقتك بالكتاب المقروء مثمرة وإيجابية، وجب عليك التعرف عليه وهي الخطوة الرابعة، لهذا خصّص الكاتب مبحثا لذلك أشار فيه إلى بعض الخطوات الاستشرافية التي يجب على القارئ القيام بها قبل خوض غمار القراءة في كتاب معين، وأهم هذه الخطوات:
* النظر في طرة الكتاب والتمعن في عنوانه الرئيسي أو الفرعي الذي يشكل امتدادا له وكاشفا لغموضه.
* التأكد من مناسبة الكتاب لمستوى القارئ، فلا يكون دون مستواه فيورثه الكسل والخمول بسبب اجترار ما هو معلوم لديه، أو فوق مستواه فيغدو أمامه بليدا وكأنه أمام كتاب للألغاز، فيكون هذا صارفا له عن القراءة فيه أو في غيره.
* مراعاة التدرج في القراءة في مؤلفات الفن الذي يقرأ فيه، فيقرأ الكتب الأولية ثم يترقى في سلم التعليم من أوله حتى يصل إلى الطوال منه. وهذا الضرب من المعرفة يحتاج لاستشارة من أولي الخبرة.
*معرفة اصطلاحات الفنون لدرء أي غموض أثناء القراءة.
*معرفة مؤلِّف الكتاب وانتمائه العقدي والفقهي والنحوي، ومدى صلته بالفن الذي يتحدث فيه، وأخذ بعين الاعتبار ما قيل عنه من انتقادات، مع عدم الاغترار بثناء المؤلِف على موضوع مؤلَّفه.
كخطوة خامسة عالج الكاتب مسألة التعرف على المنهج و الفن، حيث أشار لطريقة التعامل مع الكتب ذات الاختصاص المعين كالكتب الفقهية والعقدية والحديثية واللغوية وكذا الكتب الفكرية والثقافية والفلسفية والأدبية و بعض خصائصها.
حين تُغالب كل تلك المعيقات، وتُقبل بنفس نهمة على القراءة، فتقتني كتابا وتأخذ في تصفّحه، تكون قد بلغت الخطوة السادسة وهي فحص الكتاب لأخذ فكرة عامة عن موضوعاته قبل الاستغراق في قراءته، وهذا ما يعبّر عنه بالقراءة الاستكشافية وهي (فن الحصول على أكبر فائدة من الكتاب خلال زمن محدد) وقد أشار الكاتب إلى أهميتها وأغراضها وأنجع السبل لتتبعها حتى تكون مفيدة. قال ابن جماعة: (وإذا اشترى كتابا تعهد أوله وآخره ووسطه وترتيب أبوابه وكراريسه وتصفح أوراقه، واعتبر صحته وما يغلب على الظن صحته إذا ضاق الزمان عن تفتيشه).
في المباحث الموالية تحدث الكاتب عن بعض ضروب القراءة، كقراءة الدرس أو قراءة الضبط والتحصيل، وهي أهم أشكال القراءة، وهذا الضرب هو (الذي يبني القارئ ويؤهله تأهيلا يستطيع معه أن يميز بين الأمور والحكم فيها بميزان العلم وحده، وهو الوجه الآخر للتعليم الذاتي، وصنو الدراسة على الأساتيذ والأشياخ، نظرا لأنه يقوم على المواظبة على مطالعة الكتب والتعمق في دراستها، والبحث عن مخبآت الكتب والدفاتر)، وتسمى أيضا القراءة التحليلية أو البحثية، ولأهميتها عدّد المؤلف فوائدها الجمّة وأكّد أن العبرة في القراءة ليس الكمّ بل الكيف، وأنّ (من يقرأ بكمية أكبر وليس بنوعية أفضل يستحق الإشفاق أكثر من أن يستحق المكافأة).
في مقابل القراءة المتأنية، تحدث الكاتب عن نوع آخر وهو القراءة السريعة، وهي من (المهارات التي تحتاج إلى مران وتدريب كاف)، فبيّن أغراضها، ومجالاتها، وطرقها، وكيفية حساب سرعة القراءة. ثم عرَضَ تدريبًا وتمرينًا عمليًا على القراءة السريعة، وأشار في الأخير إلى بعض معيقات القراءة السريعة.
ولأنه لا قيمة للقراءة إن لم يحضر التركيز أثناءها فقد عرض الكاتب في الخطوة التاسعة للتركيز فبحث بعض معيقاته الخارجية والداخلية وكذا سبل تحقيقه أثناء القراءة ضمانا للفائدة المرجوة من المطالعة. كاختيار مكان مناسب للقراءة بعيدا عن الضوضاء وتوفير فضاءات مريحة وجلسة سليمة تستطاب بها القراءة.
وحين يتعذّر عليك فهم المقروء، وصار الكتاب بين يديك طلاسم مبهمة، فأمامك مخرج لك اللجوء إليه، وهو ما سماه الكاتب في الخطوة العاشرة بالمساعدات الخارجية، ويقصد بها كل ما يفيد في فهم الكتاب وتوضيح الملتبس فيه وإزالة الغامض منه، بحيث يذلل صعوبات ما يقرأ، كالاستعانة بالشروح أو التعاليق على الكتاب، أو اللجوء للمختصرات والمستخلصات الجيدة للكتاب. غير أن الاستفادة من هذه المساعدات الخارجية لا يجب أن تكون إلا بعد استنفاذ القارئ كل جهده الشخصي في فهم الكتاب وإعمال فكره وعقله فيه.
ولأنه من أغراض القراءة الظفر بالكنوز المعرفية واللغوية والإنسانية التي حوتْها دفاف الكتب، كان لزاما على كل قارئ أن يتهيأ لهذه الرحلة بتقييد الفوائد، ليبلغ بذلك الخطوتين الحادية عشر والثانية عشر في مشوار رحلة القراءة، وهنا أشار الكاتب إلى ما ينبغي الالتزام به أثناء تسجيل الفوائد وما يجب تجنبه أثناء تدوين التعليقات على الكتب. مع الحديث عن طرق كتابة الفوائد والتنبيه على الجمل المهمة أثناء المطالعة في الكتب.
في الخطوة الثالثة عشر، نبّه الكاتب لأمر قد يكون قريبا من خطوة سابقة (التركيز)، وهو: التأمل، أي ضرورة إعمال العقل أثناء القراءة وتأمل ما نطالعه بين صفحات الكتب لأن (القراءة إن كانت خلوًا من التأمل والتفكير فالنفع منها هزيل والثمرة منها قليلة، قال بيرك: القراءة بلا تفكير كالأكل بلا هضم). ورحلة التأمل والتفكير يجب أن تكون أثناء القراءة وبعدها، ليرى القارئ مدى استفادته من المقروء، وكأداة للمساعدة عرض الكاتب بعض أدوات الاختبار التي من خلالها يعرف القارئ مدى فهمه للكتاب. مع الإشارة إلى مهارات القراءة الجيدة.
ومن آفات القراء اليوم، جرأة الكثير منهم على نقد كل شيء، رغم عدم توفرهم على آليات النقد، لهذا خصص الكاتب الخطوة الرابعة عشر للنقد، فأكد أن (القارئ الواعي أقدر من غيره على النقد، لأنه ناقد والناقد بصير) وأن النقد المرجو هو الذي يكشف من خلاله القارئ مساحات الجمال في النص المقروء، فيسلط الضوء على الجوانب الإيجابية في الكتاب أولا، ثم يذكر الملاحظات والأخطاء على الكتاب بعد ذلك، لا أن تكون عيونه جاحظة على النقائص غافلة عن الحسنات. ومن ثمة كان لزاما على الكاتب أن يشير لآداب النقد ومفاتيحه.
ولأن (الثقافة إذا ظلت محفوظة لدى قلة بمعزل عن حركة المجتمع، فإنها لا تغنيه ولا يغنيها، بل تبقى كأحجار كريمة في جوف قبر يعلوها التراب) -كما قال د. إسماعيل صبري-، فقد ختم المؤلف مصنّفه الماتع بفصل العمل، للتأكيد أن فائدة المطالعة إن لم تترجم إلى واقع وعمل، لا خير فيها، وأن أهم ثمار العلم العمل، وقد كان من نصائح ابن قتيبة للكاتب قوله (ويمتحن معرفته بالعمل في الأرضين لا في الدفاتر، فإن المُخبر ليس كالمعاين).
وفي مبحث بعنوان (أشتات)، ستجد أخي القارئ نثارات في القراءة، عبارة عن متفرقات وتوجيهات تكميلية لما سبقها، وقد حصرها في ضوابط عدة، منها :
* التأكيد على قراءة كتاب واحد في باب معين مرات متعددة أفضل من قراءة كتب متعددة في نفس الباب.
* عدم الانصراف عن قراءة كتاب نويت قراءته أو الزهد فيه بدعوى عدم جدواه، بل عليك الاستمرار في قراءته فلا يخلو كتاب من فائدة، ولو أن يعلمك الصبر.
* تحري قراءة كتب المتقدمين والنهل من فيوضها وبراعتها.
المبحث قبل الأخير، سلّط فيه الكاتب الضوء على آفات تصيب بعض مدمني القراءة تقلل من الفائدة التي تجنى منها، مثل: الكبر والاستعلاء والعجب، الكَزَازَة وسوء الخلق، التشتّت في القراءة.
مسك الختام مبحث لطيف عن نجائب الكتب، ذكر فيه المؤلف مجموعة من الأقوال المنسوبة لأصحابها تبين مواصفات الكتاب الجيد.
وبعد أخي القارئ:
هذه جولة سريعة بين صفحات كتاب (قراءة القراءة) أمتعني أمتع الله كاتبه بوافر الصحة والعافية، فأحببتُ أن تشاطرني ذات المتعة، وتهرول بعد هذه المقتطفات لاقتنائه لتقف على كامل تفاصيله، خصوصا إن كنت من المبتدئين في المطالعة، ولا تجد مسلكا ميسرًا لخوض غمارها.