ذ. البورقادي*: هناك تدخل سافر للبنك الدولي في قطاع التربية والتعليم، وما ينقصنا ليس المشاريع والبرامج الإصلاحية؛ بل الإرادة الحقيقية للتنفيذ والإنجاز   حاوره: الحسين باروش

  

في الجزء الثاني من هذا الحوار تواصل جريدة السبيل الوقوف مع أهم المحطات الإصلاحية التي عرفتها المنظومة التربوية المغربية مع الأستاذ الباحث في قضايا التربية والتكوين خالد البورقادي.

في الجزء السابق كنت توقفت أستاذ عن ما سميته “الإصلاح المرغم 1983- 1985” الذي طبعته سمة بارزة هي: تقليص النفقات العمومية. هل لك أن تشرح لنا ذلك؟

ج: في ميدان التعليم تم إقرار هدفين:

  • في المدى القريب: التخفيض من نفقات التربية الوطنية؛
  • في المدى البعيد: التقليص من عدم الملاءمة بين تكوين الأطر وحاجيات الاقتصاد.

وقد عرفت المرحلة هيكلة القطاع وفق بنية التعليم الأساسي 9 سنوات والثانوي 3 سنوات. وقد تم إعداد برنامج التطبيق متوسط الأمد لتحقيق الإصلاح (البنك العالمي 1985، حركة التعليم 1984- 1986).

وهنا نلحظ التدخل السافر للبنك الدولي في قطاع التربية والتعليم والحديث الصريح والواضح عن سياسة التقويم الهيكلي!! لكن رغم ذلك بقيت المنظومة التربوية تتخبط في مشاكلها؛ مما دفع القائمين على الشأن التربوي تشكيل لجنة أخرى للإصلاح عرفت باللجنة الوطنية للتعليم 1994: محاولة تجاوز آثار التقويم الهيكلي على التعليم خلال ثمانينيات القرن الماضي وذلك بالرفع من بنياته.

فهي لجنة اشتغلت بوطنية وحرفية عالية وقدمت مشروعا لإصلاح التعليم شاملا ومتكاملا. لكن الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله لم يرقه ذلك فتعطل المشروع إلى أن عين الملكُ اللجنة الملكية للتربية والتكوين سنة 1999. لكن أعمال هذه اللجنة لم نطلع عليها كاملة فنرجو من صانع القرار التربوي الإفراج عن جهود أعضاء هذه اللجنة بخصوص إصلاح التعليم من باب الحق في المعلومة ثم حفظ الذاكرة التربوية للمغاربة.

 

ماذا عن الميثاق الوطني للتربية والتكوين؟ وما الجديد الذي قَدَّمه هذا المشروع للمنظومة التربوية المغربية؟

تعلمون السياق الذي جاء فيه مشروع الميثاق؛ فبعد التخلي عن المشروع السابق (أعمال اللجنة الوطنية للتعليم 1994 وهو مشروع وطني طموح)، وإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي؛ والدفع في اتجاه تخلي الدولة عن الإنفاق على قطاع التعليم؛ تم تشكيل لجنة ملكية للتربية والتكوين عرفت باسم la cosef (اللجنة الملكية للتربية والتكوين 1999) وضعت أسس إصلاح التعليم: وقدمت وثيقة الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 2000 الذي يعد الدستور التربوي للنظام التربوي بالمغرب: حمل تعديل الهندسة البيداغوجية للأسلاك الثلاث؛ تغيير البرامج والمناهج؛اعتماد المقاربة بالكفايات؛ تعددية الكتاب المدرسي؛ الاهتمام بتدريس الأمازيغية؛ الإشارة بوضوح إلى تخلي الدولة عن مجانية التعليم من خلال الحديث عن مرحلة فقط تتحدث عن التعليم الإلزامي، الاتجاه نحو الخوصصة وتسليع التعليم، تخفيض النفقات والبحث عن بدائل في التمويل…، وأعلنت العشرية 2000-2009 عشرية للتعليم؛ وعد التعليم القضية الثانية بعد الوحدة الترابية للبلاد، غير أن الميثاق رسم أهدافا طموحة جدا في بعض المجالات وحدد لها مواعيد زمنية للتنفيذ والتحقق، لكن التنزيل والأجرأة اصطدما بواقع صعب يعيشه القطاع من البنيات والموارد البشرية وما يرتبط بذلك من حاجة ماسة للتأهيل والإعداد وما يتطلبه ذلك من موارد مالية..، فتأخرت وتيرة الإنجاز وبالتالي ضعف المردودية والمخرجات..

 

وماذا عن البرنامج الاستعجالي 2009/2012؟

عقب التأخر الواضح في تنفيذ بنود الميثاق الوطني للتربية والتكوين؛ وعلى إثر التقارير الدولية والمحلية حول تقهقر التعليم بالمغرب جاء المخطط الاستعجالي (2009-2012): الغرض منه زرع نفس جديد في مسلسل إصلاح المنظومة التربوية: اعتماد بيداغوجيا الكفايات والإدماج، محاربة الهدر المدرسي؛ تشجيع جمعيات دعم مدرسة النجاح…، والبرنامج جاء -كما أسلفت- على إثر تقرير البنك الدولي الذي انتقد مستوى التعليم ببلادنا وبطء وتيرة الإصلاحات.

وأنتم تعلمون كما الرأي العام الوطني؛ أن البرنامج الاستعجالي صرفت عليه أموال باهظة جدا قُدرت رسميا بأربعة وثلاثين مليون درهم (34 مليون درهم)؛ وقد شيعه الوزير الأسبق محمد الوفا تحت قبة البرلمان معلنا فشله سنة 2012!!! وقد عرف البرنامج سلسلة اختلالات واختلاسات ضخمة تحدث عنها وزراء في الحكومة، لكن الغريب أننا لم نشهد أي محاسبة ولا محاكمة لناهبي الأموال المخصصة للنهوض بالمدرسة الوطنية العمومية، بل سهام النقد والتجريح توجه في الغالب للفاعلين التربويين من إداريين ومفتشين ولنساء ورجال التعليم (الحائط القصير كما في المثل الشعبي)، في ضرب خطير للقيمة الاعتبارية لرجل التعليم في المجتمع فيحملونه تدهور القطاع وفشله!!! (من ذلك التصريحات الرسمية لبعض الوزراء تجاه رجال التعليم: الخرجات المتتالية للسيد وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي خلال هذا الموسم 2016/2017، تصريح السيد وزير الوظيفة العمومية غشت 2017!!!).

وما يزال الرأي العام التربوي والوطني ينتظر التقرير التقويمي للبرنامج الاستعجالي لحد الساعة.

 

لا حديث في الساحة التربوية الآن إلا عن رؤية استراتيجية 2015/2030 أصدرها المجلس الأعلى للتعليم والتكوين والبحث العلمي؛ وعن التدابير ذات الأولوية أصدرتها وزارة التربية الوطنية في 2015، هل من علاقة بينهما؟ وهل يعد هذا نهاية لحقبة الميثاق الوطني للتربية والتكوين؟

صحيح؛ كما تفضلت فلا حديث الساعة إلا عن الرؤية الاستراتيجية 2015/2030 التي أصدرها المجلس الأعلى للتعليم والتي جاءت بعد صدور تقرير حول “تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين 2000-2013: المكتسبات والمعيقات والتحديات”، ذلك التقرير الذي رصد مجموعة من الاختلالات التي أثرت سلبا على مخرجات المنظومة التربوية المغربية.

هذه الرؤية؛ كما الميثاق؛ كما الربنامج الاستعجالي؛ وسائر المشاريع الإصلاحية- رفعت شعار الإنصاف وتكافؤ الفرص؛ ترسيخ الجودة؛ الارتقاء المجتمعي… من خلال رافعات تُكرر في معظمها ما قيل سابقا من حديث عن الجودة في التعليم والمدرسة الوطنية المفعمة بالحياة… إلى غير ذلك، مما يطرح عدة أسئلة: هل الرؤية الاستراتيجية مشروع إصلاحي وامتداد للميثاق؟ أم هي ناسخة له؟ أم برنامج استعجالي آخر بصيغة أخرى؟ وما العلاقة بينها وبين التدابير ذات الأولوية التي شرعت الوزارة في تنزيلها منذ 2015؟

ما هي الخيوط الرابطة والناظمة لهذه المشاريع الإصلاحية المتعددة والكثيرة؟ هذه الأسئلة وغيرها تدل على مدى التخبط والإرباك الذي تعيشه منظومتنا التربوية؛ أضف إلى ذلك برنامج الحكومة في قطاع التربية والتعليم، ثم الترسانة الكبيرة من المذكرات الوزارية الصادرة كل سنة في مختلف المواضيع..

ولعل الرأي العام يتذكر تصريح السيد رئيس الحكومة السابق ضد وزيره في التعليم السيد رشيد بلمختار حينها داخل قبة البرلمان بخصوص التدريس باللغة الفرنسية في المسالك العلمية وما أثارته المذكرة من ردود أفعال.. والتوجه المحموم نحو الفرانكفونية (المسالك الدولية للباكالوريا؛ وصدور مذكرة في نهاية الموسم لتنزيلها للإعدادي، إدراج الفرنسية بالسنة الأولى ابتدائي ابتداء من هذا الموسم الموسم، تهميش الباكالوريا الدولية خيار لغة إنجليزية..) لمما يطرح عدة أسئلة حول النوايا الحقيقية لكثرة المشاريع الإصلاحية وبالمقابل ضعف بَيِّن في المردودية والمُخرجات وفشل ذريع في المدرسة الوطنية العمومية.

 

في رأيكم كباحث تربوي، ومشتغل بالإشراف التربوي، ومن خلال تتبعكم لمختلف المشاريع الإصلاحية التي عرفتها المنظومة التربوية، ما هي أهم الملاحظات والنتائج المتوصل إليها؟

لعل فيما سبق بعض الإشارات إلى ذلك، لكن يمكن القول: إن القاسم المشترك بين هذه الإصلاحات ومحاولة الإصلاح وإصلاح الإصلاح وإعادة الإصلاح..، هو غياب رؤية استشرافية وتوقعية واضحة المعالم، فبالرغم من التجارب والإصلاحات السابقة واللاحقة مازال تعليمنا بعيدا عما يجب؛ حيث كل سنة تصنف التقارير الدولية المغرب في مؤخرة الدول من حيث جودة النظام التعليمي رغم هذا المسلسل الطويل من الإصلاحات منذ الاستقلال إلى الآن.

ويمكن أن نسجل أهم الملاحظات على جملة المشاريع الإصلاحية بالمنظومة التربوية المغربية:

  • الطابع التقنوقراطي للإصلاح، حيث يشتغل المخططون بالأرقام إلى حد التضحية بالعناصر الكيفية للمشاكل؛
  • غيابُ الدراسات التقييمة العلمية للمشروع الإصلاحي قبل الانطلاق في مشروع آخر (إلا ما ندر وبتكتم شديد): فقد شيع الوزير الأسبق محمد الوفا البرنامج الاستعجالي في البرلمان 2012 معلنا فشله رغم التكلفة الباهظة 34 مليون درهم؛ ولم يعلن عن التقرير التقويمي الذي أنجزه السادة المفتشون،
  • عدمُ الاستناد في التخطيط للمشروع الإصلاحي على البحوث الميدانية التي ترصد حركية العملية التربوية والمتغيرات المتسارعة للمدرسة؛ فلا ينبغي الاقتصار على ما يسمى سلسلة المشاورات..
  • المقاربةُ التجزيئية للمشاريع الإصلاحية؛ فنظام التعليم في كثير من الأحيان يكون موضع معالجة بمفرده معزول عن السياقات المجتمعية والسياسية والثقافية والاقتصادية؛ وقضية التعليم قضية مجتمعية تقتضي إشراك الكل وانخراط الكل.
  • غيابُ مشاركة المعنيين المباشرين بالإصلاح: فمشاريع الإصلاح تعد في جو من الانعزال والسرية يثير الحذر لدى الفاعلين الخارجيين ولدى رجال التعليم على الخصوص الشيء الذي يؤدي مسبقا إلى انطباع سلبي عن هذه المشاريع. إن الآباء والمدرسين أول المعنيين المباشرين لا يستشارون بشأن الإصلاح؛ ويؤدي هذا السلوك إلى مواقف سلبية: لا مبالاة؛ تحفظ وأحيانا مقاومة صريحة من طرف المعنيين.
  • هناك ملاحظة يمكن تعميمها على جميع الإصلاحات هي البطء في الإنجاز لأسباب منها ما هو مرتبط بتأخر النصوص التشريعية أو بتداخل السلط بين القطاعات أو بالجانب المالي أو تعقد الإجراءات الإدارية…
  • غياب الحكامة في تنفيذ وتتبع المشاريع الإصلاحية في تناقض صارخ مع مقتضيات وشروط الجودة؛
  • ضعف الإنفاق على قطاع التربية والتعليم وتكريس فكرة أن القطاع مكلف وغير منتج؛ وينسى القائمون على الأمر أن تكلفة الجهل والتخلف أكبر وأفظع؛ وفي هذا السياق يكمن أن نجري مقارنة مع نظام تربوي مغاربي: تونس التي عرفت أربع محطات إصلاحية منذ الاستقلال؛ توفر معلما لكل ستة عشر تلميذا؛ بينما في المدرسة المغربية معلم لكل 36 تلميذا (كمعدل في أحسن الأحوال، وإلا فالاكتظاظ سمة المدرسة المغربية)، تونس تنفق ما يعادل 10000 درهم سنويا على كل تلميذ؛ بينما المغرب ينفق ما معدله 6000 درهم.. والتعليم بتونس أحسن تصنيفا وجودة في مختلف التقارير الدولية.

سؤال أخير: ما هي في رأيكم أهم الشروط التي ينبغي توفرها لنجاح الإصلاح التربوي بالمغرب؟

في ضوء المشاكل التي اعترضت سيرورة النظام التعليمي خلال العقود الماضية وفي ضوء الكيفية التي تمت بها مجابهة هاته المشاكل، يمكن التوصل إلى تحديد بعض الشروط التي يعتبر توفيرها إلزاميا لنجاح العمل الإصلاحي بالتعليم.

  • مشروع مجتمعي: من هذه الشروط الأولية والضرورية التوفر على مشروع مجتمعي شمولي ومحدد المعالم يأخذ بعين الاعتبار المكونات الأساسية للمجتمع وتطلعاتها، ويكون قابلا للإجماع من طرف مختلف المكونات التي تكونه. لأن النظام التربوي لا يشتغل ولا ينمو لذاته وإنما داخل المجتمع؛
  • منظور واضح لموقع النظام التعليمي ولوظائفه النوعية؛
  • منظور مندمج لنظام التعليم والتكوين؛
  • مشاركة واسعة ونشيطة؛
  • تكوين ملائم؛
  • وسائل مادية كافية؛
  • بنية حديثة للتتبع والتقويم.

بمعنى آخر لابد من التوفر على الإرادة الحقيقية للإصلاح؛ فكيف يعقل أن نرفع شعار التعليم هو القضية الوطنية الثانية بعد الوحدة الترابية؛ وترفض الحكومة الرفع من الميزانية المخصصة للقطاع على هزالتها 2% (ميزانية 2017)؟؟ فهل بالفعل التعليم قضية ذات أولوية؟؟

فما ينقصنا ليس المشاريع والبرامج الإصلاحية؛ بل الإرادة الحقيقية للتنفيذ والإنجاز، واعتبار التعليم قضية مجتمعية وشأن مجتمعي على الجميع أن يسهم فيه ويسعى للنهوض بالمدرسة الوطنية العمومية من التخبط الذي تعيش فيه. والقطع مع منطق الريع في تدبير القطاع !!

 

نشكركم على سعة صدركم لأسئلتنا وما تفضلتم به من معلومات قيمة حول قضية الإصلاح التربوي ببلادنا.

بدوري أشكركم على الجهود التي تبذلونها؛ وعلى هذه الفرصة للتواصل مع المهتمين بالشأن التربوي ببلادنا. وفقكم الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الباحث في قضايا التربية والتكوين؛ وهو مفتش تربوي للتعليم الثانوي التأهيلي؛ خريج المركز الوطني لمفتشي التعليم، له العديد من الأبحاث والدراسات التربوية، مشارك في عدة مؤتمرات وندوات دولية ووطنية حول قضايا التربية والتعليم.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *