نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد نقد موقف ابن رشد في موضوع وجود الله وصفاته وخلقه للعالم

ثالثا: نقد موقف ابن رشد من خلق العالم وأزليته:
نُخصص هذا المبحث لنقد ابن رشد في موقفه من خلق العالم وأزليته، فهل العالم أزلي خالد لا بداية له ولا نهاية، أم حادث مخلوق وُجد بعد أن لم يكن؟، وما هو موقفه الحقيقي من هذه المسألة؟، وهل كان صريحا في موقفه منها، أم كان كعادته يلف ويُغالط ويُؤوّل؟. هذه الأسئلة –وغيرها- ستجد إجابتها في مبحثنا هذا، إن شاء الله تعالى.
أولا إنه -أي ابن رشد- ذكر أن القدماء والمتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين اتفقوا على القول بحدوث الحيوانات والنباتات والكائنات الأرضية. وقوله هذا مُجمل وينطوي عل تغليط، لأن من الفلاسفة من يرى أن ذلك الحدوث يخص الأفراد وليس الأنواع، بمعنى أن الأفراد حادثة لكن أنواعها أزلية خالدة، فالإنسان كفرد مثلا هو حادث زائل، لكنه كجنس ونوع يرمز للإنسانية المتكاثرة، هي خالدة لا تزول ولا تفسد. وهذا قال به أرسطو، فقد كان يعتقد أن الحيوانات كأنواع أزلية. وحتى ابن رشد قال بذلك عندما ادعى أن عملية التكوّن والفساد في العالم السفلي أزلية. فكان على ابن رشد أن يُحدد ما يقصده بدقة، ولا يتركه مجملا، لأن القول بحدوث الكائنات الأرضية يحتمل معنيين ولا يحتمل معنى واحدا. فإما أن يُقصد به الحدوث الحقيقي الذي يعنى الوجود من لا شيء، وإما أن يُقصد به الحدوث الذي حكيناه عن أرسطو.
والحدوث بمعنى الوجود من عدم لا يُوجد حوله اتفاق بين الفلاسفة المشائين، وبين علماء الشريعة والمتكلمين، لأن أولئك الفلاسفة لم يقولوا بهذا الحدوث، لكن الآخرين معروف عنهم أنهم يقولون بأن العالم كله حادث من عدم، وُجد بعد أن لم يكن، وهذا أمر ذكره ابن رشد نفسه عندما أشار إلى أن الأشعرية تقول: إن طبيعة الممكن –أي المخلوق- مُخترعة وحادثة غير شيء.
وعندما تطرق ابن رشد إلى مسألة خلق العالم وأزليته –في كتابه فصل المقال- لم يتخذ موقفا واضحا منها، ولم يُفصح عن موقفه الحقيقي منها، وتظاهر بموقف وسط بين المتنازعين مع أن باطنه مع القائلين بقدم العالم وأزليته، فقال: (فهذا الوجود الآخر الأمر فيه بيّن أنه قد أخذ شبها من الوجود الكائن الحقيقي، ومن الوجود القديم. فمن غلب عليه ما فيه شَبَه القديم على ما فيه شبه المحدث سماه قديما، ومن غلب عليه ما فيه من شَبَه المحدث سماه محدثا، وهو في الحقيقة ليس محدثا حقيقيا، ولا قديما حقيقيا فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة، ومنهم من سمّاه محدثا أزليا).
وقوله هذا ليس شرعيا ولا موضوعيا، لأنه جعل الأرضية الفكرية للمتنازعّيّن متساوية، وكأنه يُريد أن يقول: لكل طرف مُبرراته الفكرية، وعليه أن يقبل بالآخر ويعذره ويعترف به، وهذا لا يصح لأن القائلين بخلق العالم وحدوثه يعتمدون على حجج قوية تقوم على الشرع والعقل، أيدها العلم الحديث، وأما القائلون بخلاف ذلك فهم يعتمدون عل الشبهات والظنون والتخمينات والتأويلات الفاسدة، وقد أثبت العلم الحديث بطلانها. فشتان بين الموقفين!، والقائلون بالأزلية يصدق عليهم قوله تعالى: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ) سورة النجم: 23، وأما حكمه بأن العالم في الحقيقة (ليس محدثا حقيقيا، ولا قديما حقيقيا)، فلا يصح شرعا ولا علما.
وموقفه هذا قد يُشير إلى أنه -أي ابن رشد- كان مُضطربا في موقفه من مسألة خلق العالم وأزليته؛ لكن طائفة كبيرة من أهل العلم والباحثين ترى خلاف ذلك، ونصّت على أن ابن رشد قال فعلا بقدم العالم وأزليته وأنكر حدوثه، منهم: إمام عبد الفتاح إمام، ومحمد عابد الجابري، وزينب محمد الخضيري، ومحمد عمارة، وجورج طرابيشي، ومحمد أبو ريان، وزينب عفيفي، ومحمد عاطف العراقي الذي ذكر أن ابن رشد في كتابه فصل المقال، والكشف عن مناهج الأدلة، وتهافت الفلاسفة لم يُظهر علانية القول بقدم العالم وما يُخالف الشرع، ونصّ على أن ذلك يُفصّل في كتب البرهان -أي كتب الفلسفة- كالتي شرح فيها كتب أرسطو ولخصها، وفيها أظهر القول بقدم العالم، ودافع عنه وانتصر له، ولرأي سلفه أرسطو، منها: تلخيص السماع الطبيعي، وتلخيص السماء والعالم، وفي هذا الأخير أكد على أزلية العالم وأبديته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *