تَكاتُف الجُهود النَّصْرانية الأوروبية لدَفْع صَوْلة العِصابات[1] الإسلامية الأَلْبِيَّة:
طالما سَعَى أُناسٌ في جَمْع كلمة الملوك والأمراء على قتال هؤلاء، ففشلت مَساعِيَهم بما كان من اختلاف الكلمة، بل كنت ترى أحيانًا بعض الرؤساء يسْتَظْهِرون بالعرب على أبناء جِلْدَتهم.
وذكر فلو داورد أن راهبًا اسمه رودلف، من رُهبان سان موريتز، وجّه خِطابًا إلى الملك لودفيك الرابع، يُذَكِّرُه فيه بالأعمال العظيمة التي قام بها سلاطين جِرْمانِيَّة في المحافظة على هذه الجهات، ويَسْتَعْدِيه على العرب، ويَسْتَمِدُّه لإماطَة مَعَرَّتِهم، وتَرْميم ما خَرَّبوه من قُبور القِدِّيسين.
ولما ضاق ذَرَعُ الأهالي جميعًا بهؤلاء المسلمين، لا سيما أهل بروفنس، وسويسرا، وإيطاليا، عَزَم هوغ كونت بروفانس على أن يَنْصِب نفسه لحربهم، واستئصال شأفتهم، وذلك بعد أن عَقَد الصّلْح مع ألبريكوس، خَصْمه الذي كان ينازعه على مملكة لومباردية ـ شمال إيطاليا وشمالها الغربي ـ وقرر أن يتَوَلَّى كِبْر هذه المسألة، ويطرد العرب من تلك الديار، ويستولي على مَعْقلهم الأَشَمِّ في فراكسينه، والمَرْسى الذي لهم في خَليجها.
فاستنجد هوغ صِهْرَه صاحب القسطنطينية؛ ليمُدَّه بالأسطول، وبالنَّار الإغريقية، فحَضَر الأسطول، وهاجم المسلمين من البحر، وأحرق بالفعل مراكبهم في خليج سان تروبس، بينما كان هوغ ومن معه من الأهالي يهاجمون حُصَونهم في جبل فراكسينة من البر، وضاق بالمسلمين الخِناق، فاعتصموا بالجبال، وأعيا أمرَهم هوغ.
ورغم أن مَقْصِده من حَرْبه لهم كان أن يَمْحو وجودهم من تلك الديار، ويُخَلِّص أهالي البلاد من رُعْبهم، لكن ما فاجَأَه حينها لم يكن في حُسْبانه، وهو أن بيرانجر المُطالِب بعَرْش لومباردية، قد ثار عليه، وقام يُنازِعُه المُلْك، فغضب هوغ، وأَصَرَّ على قَهْره، وأخذه أسيرًا، وقتله، أو سَمْل عَيْنه، ففَرَّ بيرانجر من لومباردية إلى هرمان أمير شفابن، فأجاره، وقَدَّمَه إلى أوتو قَيْصر ألمانية، فأكرم مَثْواه، ووعده خيرًا، فلما علم هوغ بذلك، سقط في يده، وأرسل إلى القيصر الألماني بالألطاف، والهدايا؛ ليصرفه عن مساعدة بيرانجر، وقام هوغ بتسريح الأسطول اليوناني، ثم صالح العرب، وعقد معهم معاهدة، أطلق لهم بها حريتهم، وأمنهم.
قَرائن الاعتراف السياسي وثِمارُه:
وقد شَرَط هوغ عليهم في تلك المعاهدة: أن يجعلوا سُكْناهم في الجبال الفاصلة بين إيطاليا وشفابن، وأن يقوموا بسَدِّ جميع المَضايق والثَّنايا، إلا ثَنِيَّة سان برنار فقط، وأن يَحْجِزوا بين عساكر بيرانجر، وجبال الألب، فقاموا بتنفيذ ذلك الشرط بتمامه، حتى أن بيرانجر لم يَجْرؤ في عودته إلى إيطالية أن يَمُرَّ بجبال الألب، بل جاء من طريق جبال التيرول، فتعرض من جَرَّاء جُبْنه إلى هِجاء الشاعر المؤرخ يود براند الذي كان في عصره.
وظاهر جَلِيٌّ أن المسلمين قد نالوا بهذه المُعاهدة حَقَّ احتلال جميع مَعابر الألب، وشِعابها، وجَلاء نَفَس هوغ عن بُقْعَتهم، أو منطقة احتلالهم، وإن كان هذا غير صريح.
والذي لا شك فيه أنهم اتخذوا هذه المعاهدة سلاحًا، وانتفعوا بها أعظم الانتفاع؛ إذ شعروا أنهم أصبحوا السادة المالكين لمعابر الألب، وضربوا رُسومًا على القوافل المارَّة، فكل من لم يؤدِّ لهم الرَّسْم أوثقوه أسيرًا، إلى أن يدفع.
واستقر أمر هؤلاء، وجعلوا يَحْرُثون الأرض، ويبَنْون، ويَغْرِسون، وتزوجوا بنساء من البلاد، ولبثوا قابِضين على بلاد الألب، لا سيما ممر سان برنار الشهير إلى الآن، ولم يتحقق إجلاء المسلمين عن قلعة فراكسينت إلا بعد أكثر من ثلاثة عُقود، وأقامت منهم فِئَةٌ بمدينة نيس، وظَلَّت فيها حارَة باسمهم إلى مطلع القرن العشرين.
إرْهاصات الضَّعْف ومُقَدِّمات الإخْراج والطَّرْد:
وقد انكسر للمسلمين ـ بحسب الروايات الكَنَسِيَّة الأوروبية ـ جَيْشٌ في عام 954 م، وانكسر لهم جَيْشٌ آخر في حَرْب المجار ـ أي المجريين الهنغاريين ـ على يد الملك كونراد فون بورغوند؛ واسْتَأصَلَ الملك المذكور منهم طائفة عظيمة.
وكان للخُطَّة الماكرة التي أَعَدَّها كونراد المذكور الملقب بالمُسالِم، والذي حكم من (325-383هـ/937-993م) للانتصار على الهنغار ـ المجريين ـ والمسلمين معًا، والتي نَتَج عنها تَخْليص سافوى من السِّيادة الإسلامية، دور كبير في إضعاف شوكتهم، لكنهم بَقوا قابِضين على مَعابر الألب الغربية.
أَفُول وانْهِيار:
وقد أخرج الأهالي المسلمين من سان برنار بعد معركة شديدة في سنة 960 م، ومن غرنوبل، ووادي غريزي فودان ـ وهما موضعان بجنوب فرنسا ـ سنة 965 م، وبعد ذلك اجتمعت عليهم جيوش عظيمة من كل صوب، وهزموهم، وقتلوا أكثرهم، وتَنَصَّر بعضُهم تَقِيَّةً، ويُظَنُّ أنه قد فَرَّت منهم طوائف إلى إفريقيا، وإسبانيا، وقد بَقِيَت لهم قُرى تَنَصَّر أهلُها، ومن أَبَى منهم النَّصرانية صاروا عبيدًا، يشْتغلون في أراضي الأَدْيِرَة، وكان سقوط حِصْن فراكسينة سنة 975م بعد أن أقاموا به أكثر من 80 سنة.
وقد كان لحادثة أَسْر أحد قِدِّيسِيهم الكبار المُسَمَّى ماجلوس أَثَرٌ كبير في إهاجة البُلْدان بأسرها عليهم؛ إذ أشعلت نيران حرب صليبية مُبَكِّرة ضدهم، وصَمَّم الأكثرون على التَّخَلُّص من مَعَرَّتِهم؛ فلما أرسل القديس المذكور إلى بلدته كلوني بطَلَب فِدْيَة، يَفُكُّ بها نَفْسَه ورِفاقَه، قامت قيامَتُهم، وعَلا نَحيبُهم، وضَجُّوا بالأَنين، فجمعوا من ذَخائر الأَدْيار، والكنائس كل ما قَدروا، وأرسلوا به لفِداء القِدِّيْس على ـ حَدِّ وَصْفهم ـ ورِفاقه، فبلغ مجموع الفِدْيَة ألف رَطْل من الفِضَّة، أصاب كل واحد من المسلمين فيها رَطْلًا.
واشتهر في ذلك زعيم اسمه بربو من أهل سيسترون، فتَأَلَّب الأهالي عليهم بزعامة هذا الرجل، وأَجْلَوْهُم عن تلك الناحية إلى دوفينه، ومنها إلى بروفانس، وهناك غَزاهم غليوم أحد أمراء بروفانس بجيش كبير إلى مَقَرَّهم الأصلي في فراكسينه، وبعد حِصار شديد افتتح الحِصْن عَنْوَة، وفَرَّ العرب منه لائذين بالغابات، والجبال، فمنهم من وقع في اليد، فقُتِل، ومنهم من تَنَصَّر؛ لينجو برَقَبَته كما تقدم، وتَقاسَم جيشُ بروفانس أَسْلابهم، وهكذا انتهت من هناك دولتهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
آثار الوجود الإسلامي وبعض مَظاهره الحَضارِيَّة:
وقد كان الأوروبيون يُطْلِقون على المسلمين في القُرون الوسطى لفظة سارازين، وأصل هذه الكلمة، وكيفية اشتقاقها مما اخْتُلِف فيه كثيرًا، ومن آثار المسلمين التي تُسَمَّى باسم السارازين في تلك البلاد الكثير، فمنها: أبراج، ومَضائق جَبَلِيَّة، وكُهوف، ومَغارات، وطرق بين الجِبال، وجُسور، وقُصور، وسُدود طَواحِين، وأودية صغيرة، وجَنادل كُبرى تُسَمَّى بصُخور السارازين، وأبواب تُرْفَع وتخفض، وحِيْطان، ومُعَسْكرات، كما توجد قرية اسمها ساراز.
ومن أكثر الأشياء في تلك الجهات التي جال فيها العرب اسم مورو ـ الذي هو اسم المغربي عند الإفرنج ـ ويوجد مَمَرٌ اسمه موروباس في ناحية ماكوغناغه في البيامون ـ بإيطاليا ـ كذلك في وادٍ يُقال له: وادي أنزا ـ ولعله وادي العَنَزَة ـ مَحِلٌ يُقال له: سيما دليمورو، أي قِنَّة المغربي، وهو إلى الشمال من بريسينون، وفي جبل سان برنار غربي الدير الشهير قِنَّة شاهقة اسمها مونتمور.
ويوجد في بلاد البيامون ووادي ساس في الجبل طريقان: أحدهما يَمُرَّ من فوركنتال مُخْتَرِقًا مَمَر أنترونه، والثاني يَمُرُّ من مونتومورو، أي جبل المورو، وكل من المَضِيْقَيْن كان إلى سنة 1440م يُقال له: المَمَر القديم، ومن ذلك أيضًا جبل مورو الذي عند فراكسينة، وعليه قَصْر من آثار العرب.