في الوقت الذي صفدت الشياطين، وفتحت أبواب الجنان، وغلقت أبواب النيران، وهيئت الظروف ومهدت السبل لعودة ميمونة إلى الطاعة والقربة، والرجوع إلى الله بعد شهور من الغفلة والانحراف، في الوقت نفسه الذي شكل الشهر الفضيل فرصة للاجتهاد أكثر في العبادات، والإقبال بشكل أكبر على عمل الصالحات من لدن عباد الله الذين ينشطون لعبادته أكثر من باقي الإحدى عشر شهرا الأخرى، غير أن هذا التحسن في علاقة العباد بربهم والذي يحصل في شهر رمضان، تتجند له شياطين من نوع خاص؛ شياطين الإنس الذين يحملون المشعل بشكل منفرد، وكأن لهم وصايا من شياطين الجن بأن يكملوا مشوار الغواية التي لا يملوا منها طوال سنة حافلة بوسائل الاغراء والانحراف والافساد.
وحرصا من هؤلاء على أن يضل المسلمون بعيدين عن ربهم حتى يلقوه وهو عنهم غير راض، وحتى لا يكون رمضان فرصة لأوبة جماعية إلى الله، وحتى يحرم المغاربة وغيرهم من مسلمي العالم من بركات هذا الشهر ونفحاته الإيمانية، يقومون بهجمة شرسة من خلال إنتاجات تلفزية متنوعة تتفق على الندالة والقذارة والوقاحة خالية من كل فائدة أو خير، وتنظيم سهرات ماجنة في الفضاءات العامة يقضي لياليها قياما أولئك الذين ما استطاعوا أن يتجردوا من رواسب ما قبل رمضان، وما استطاعت أنفسهم أن تنسلخ من عاداتها السيئة، ولا أن يزيلوا ما ران على قلوبهم من انحرفات.
وبئس الصنيع صنيع أولئك القوم الذين اصطفوا في طابور المفسدين، حتى أن الكل يشتكي منهم حتى ممن يقبل على ترهاتهم لما يلمسون فيها من قبح واستهتار، وكأنهم ليس لهم في قلوبهم ذرة من تعظيم الشهر الكريم وتوقيره، أو بصيص من إيمان يمنعهم من التجرئ على محارم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والقوم لهم نية مبيتة في إفساد صيام الناس والحفاظ على انحرافاتهم السلوكية والأخلاقية ورعاية هذا الانحراف ريثما يطلق سراح شياطين الجن، وتستمر مسيرة الغواية في تآزر تام بين شياطين الإنس والجن، لذلك تجدهم يدخرون كل جديد في عالم البرامج التلفزيونية التافهة والفاسدة المفسدة إلى أن يحل شهر رمضان الأبرك، فلماذا بالضبط هذا الشهر؟
وكيف يعقل أن نسمع في إعلانات القنوات قولهم: “ليالي رمضان ليالي السهر والمرح”؟
وإشهارات من قبيل “أيام الطرب الرمضانية”؟
فيا سبحان الله ويا للعجب!؟
رمضان العبادة والطاعة والقربة والإقبال على الله، والقطع مع عوائد ومصائب وذنوب وخطايا لكثرتها ما نذكرها.
شهر الله وشهر القرآن، ما علاقته بالطرب؟!
ما علاقته بليالي السهر والمجون؟!
ماذا تفعل الملاهي الليلية في رمضان؟
وهي أيضا لها برنامج رمضاني، واعجبا!!!؟
ناهيك عن المضاربات التجارية التي شوهت وانحرفت بالشهر عن مقاصده الشرعية التي أرادها الله منه، ناهيك عن وقاحة بعض النسوة -هداهن الله- واللواتي لفرط انحرافهن لم يعطين ولو قدرا يسيرا من التقدير والاحترام لشهر رمضان، فيخرجن في تبرج وعري بلا حدود؟ وهلم جرا، فكيف يحرص الناس على صيانة صيامهم وهم يعيشون ظروفا كهاته؟
والمؤلم والمؤسف أن يستمر هذا النهج المنحرف سنة بعد أخرى تحت أنظار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الوصية على دين المواطنين وأخلاقهم كما ادعت فأغلقت دور القرآن؛ وضدا على دستور ينص على الهوية الإسلامية؛ وقوانين تمنع نشر المظاهر الإباحية.
ويستمر العجب من رجب إلى رجب، ويضيع شهر الصيام وتذهب بركاته، ويكثر المحرومون ويقل الموفقون، حتى إذا انتهى رمضان -وها قد ولىـ وأعاد الصائمون البصر والنظر، وتمت المحاسبة، حينها سيسعد من قضى شهره في الصيام والقيام ومختلف القربات، وسيندم من فاته الخير إن كان منه ندم، وإلا فإن فئات واسعة ولا يستهان بها تشقى بهذا الشهر وتتأفف من قدومه وتسعد برحيله، حين يودعه محبوه بدموع الفراق وشوق اللقاء.
أملنا كبير وعريض أن تنتهي هذه المأساة التي يخصون بها شهر الله المبارك، ويترك هؤلاء الراغبون في المحافظة على سوق الانحراف مواسم الخير الشرعية يرتوي منها الناس ريا إيمانيا، يزيل عنهم غشاوة الذنوب والمعاصي التي حاقت بالقوم من كل جانب، ولعل المسلمين يفطنون لهذا التربص من طرف المفسدين بعبادتهم، والساعين حثيثا دون تحقق الأغراض الشرعية التي أبرزها عودة فئام من الناس لربهم ولدينهم والالتزام الحقيقي بشعائره ومظاهره، والوقوف عند حدوده، كل ذلك بصدق وعزم على المواصلة دون موسمية شوهت صفاء ونقاء الأيام المباركة، وطقوسية مملة ألفها الناس في شهر رمضان، حتى إذا انقضى انقضى معه امتلاء المساجد والإقبال على القرآن والذكر والإنفاق وبعض الستر و…
ولعل هذا يعجب أهل الباطل المضاربين بكل شيء من أجل الربح وإن كان دينا لهم منه موقف. ولكن لكل أجل كتاب، والباطل في اندحار لأنه بلغ غايته وذروته، وما من شيء علا إلا وضعه الله وأسقطه، لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه.