سؤالان ختمنا بهما الحلقة الثانية من هذا المقال وهما: متى نشك؟ وكيف نشك؟ وذلك بعد أن تحقق لدينا كيف أن الشك قد يساعد -من ضمن ما يساعد- على التمييز بين ما هو حق. وبين ما هو باطل. أو كيف أنه وسيلة للوصول إلى الصواب حينما تضطرب المعلومات في الأذهان بحيث إننا نحتار بين المعلومة التي علينا قبولها والارتياح إليها. وبين التي نرفضها ونردها. إن على المستوى النظري، وإن على المستوى التطبيقي. كما صح عندنا أننا ندفع إلى الشك أو نحمل عليه مرة. وأننا نلجأ إليه عن طواعية وبكامل وعينا مرة.
فأن نشك -على اعتبار “متى” أداة أو اسم استفهام عن الزمن- لا يعني أننا نضبط أوقات الشك. كما نضبط أوقات الصلاة بدقة في الفصول الأربعة، مما يدل على أن لا وقت محددا لدى الشاك لممارسة شكه! إلى حد أنه لا يستطيع ممارسته خارجه! مع ملاحظة افتقاره إلى قدرة دائمة على الدخول في معمعانه. بحيث إن الهجوم الذي يمارسه عليه بين يومه وليله، أشبه ما يكون بما هو حتمي. والحتمي هنا لا نقصد به ما هو جبري لا مفر منه ولا مناص! وإنما نعني به الأفعال التي يأتيها المتشكك كلما توفرت في الحالة التي هو فيها، أو في الحالة التي هو عليها، شروط معينة قد لا تكون باستمرار واضحة المعالم. فقد يسمع كلاما ما عن موضوع في مجلس، جل حضوره مثقفون. وقد يسمعه في مجلس جل حضوره أميون، كمجلس العزاء الذي يتم عقده على الطريقة المغربية في الحواضر وفي البوادي! وقد يدخل في حوار مع عالم ثقافه دينية محضة. أو مع شبه عالم معلوماته ضبابية. إذ طالما حمل مربو الصبيان في الكتاتيب القرآنية اسم فقيه! ولطالما حمله بعض ممن يدأبون على حضور الولائم لقراءة ما تيسر من الذكر الحكيم، ولو أنهم لم يحفظوا القرآن بكامله! لكن كبرياءهم لا يسمح لهم بقبول النصح أمام المتحولقين معهم حول المائدة. وقد يعبر عن شكه في مجلس يحضره أحد الولاة. أو يحضره أي حاكم بعينه علا شأنه أو انخفض!
فإن كان الشاك -في ضوء ما قدمناه من حيثيات- لا يضبط كما يريد أوقات شكه أو مناسباته تمام الضبط. بعيدا عن لحظات هجومه عليه بدون ما اختيار منه. فإن الشك مع ذلك من ضمن أدواته المعرفية إن كان من الباحثين المتمرسين الذين يترددون على مصادر وعلى مراجع وأقوال أو آراء في موضوعات بعينها. مما يضطر معه على إعمال فكره للمقارنة والتمحيص والتقديم والتأخير. مع مبررات هي في يده براهين نقلية أو عقلية أو هما معا في نفس الوقت.
ولنفرض بأن باحثا في التصوف مرتاب بخصوص ذكر الله عز وجل بـ”يا لطيف” كصيغة يجري تكرارها بإيعاز من أحد الشيوخ لمآت المرات. بحيث إنه لم يستسغ التعبد بها لدليل عقلي ولدليل نقلي فلأنها من جهة ليست كلاما تاما مفيدا لدى أي سامع يرغب في التأكد من كافة أمور دينه. إذ الكلام -كما ورد في “الأجرومية”- هو “اللفظ المركب المفيد بالوضع”. فضلا عن كون عقولنا لا تقبل النداء من أجل النداء. وإلا لاكتفى سيدنا أيوب بنداء ربه دون أن يكشف له عن مقصوده من ورائه. ولما كان النداء من أجل النداء غير مقبول نحوا وعقلا. قال نبي الله لربه بعده: “أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ”. فكان أن أجابه ربه عز وجل – على أساس أن النداء دعاء وطلب – بقوله: “ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ”.
ثم إننا لم نجد في الكتاب والسنة والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين وكبار الأئمة والعلماء ما يفيد بأنهم يتقربون إلى ربهم بمختلف النداءات المجردة التي لا يرافقها التعبير عن الأهداف المرجوة من ورائها. مثل يا غني، يا رزاق، ويا حميد. والحال أنه عز وجل يقول: “وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا” بحيث نقول: يا رزاق ارزقنا. ويا رحيم ارحمنا. أما أن نقف عند حد يا رزاق، ويا رحيم، أي عند حد حرف النداء والمنادى، فإن وقوفنا عندهما لا يدل بتاتا على أننا دعوناه سبحانه بهذين الاسمين من أسمائه الحسنى!
كل هذا ونحن ندافع عن كون الشك قد يوقفنا عليه بعض مما رأيناه! وبعض مما قرأناه! وبعض مما سمعناه! مع قناعتنا بأن اليقين طالما كمن وراء الشك الذي يهمل غيرنا توظيفه في المجال الذي يثمر فيه ما يبعدنا عن الخطأ الذي يفرضه علينا التقليد الأعمى أو التسليم المطلق.. كتسليم المريدين لتوجيهات شيوخهم من باب التوقير والتعظيم اللذين يصرفانهما عن النظر بعين الريبة إلى كل ما يصرحون به من قناعات، وإلى كل ما يمارسونه من أفعال بكيفيات وفي أوقات محددة!
فلنسلم إذن بأن الشك لا وقت له، وأن ممارسته مرتبطة بمناسبات يثيرها أكثر من باعث، ويوقظها في الذهن أكثر من مؤثر. حتى الارتيابيون الذين اتخذوا الشك في كل شيء مذهبهم في الحياة، بحيث إنه يحيط بهم من كل جانب. لا يمكنهم تحديد أوقات ممارستهم له. إذ إنهم شكاك في كل وقت وحين! وقد نقول: إنهم يشكون لكون شكهم قناعات في مقابل القناعات التي يرفض الجم الغفير الشك فيها كلا أو بعضا. وفي مقابل الذين يشكون بحثا عن الحقيقة التي لم ينكروا وجودها. إذ هناك فرق بين القائلين بوجودها وبين القائلين بعدم وجودها، وبين القائلين بنسبيتها مع الإقرار بوجودها. وبين القائلين بوجودها مطلقة لا نسبية. بحيث إننا أصبحنا أمام أربع فرق:
1- فرقة تنفي وجود الحقيقة على الإطلاق. إنها تشك في ما تقدمه إلينا الحواس. كما تشك في ما تقدمه إلينا العقول. وكيف نريد منها أن تصدق بما وراء عالم كل من التجربة والعقل كتصديق المؤمنين بالغيب الذي لا يعرفون بعضه إلا عن طريق الرسل والأنبياء في حين أن جله موضع إيمان لا موضع برهنة عقلية. وإلا ما كانوا مؤمنين.
2- فرقة تؤمن بوجود حقيقة مادية ومعنوية في الآن عينه. أي إنها تؤمن بقدرة الحواس والعقل على إدراك الحقيقة التي لا يمكن جحد وجودها بأي وجه من الوجوه، ولا بأية وسيلة من الوسائل، إلا أن هذه الفرقة تنكر ما يعرف بالغيبيات، إذ الحقيقة المقبولة عندها لا تخرج عن مدركات الحواس والعقول.
3- فرقة تؤمن بالحقيقة التي تمدنا بها الحواس، وبالتي تمدنا بها العقول، وبالتي تمدنا بها الكتب السماوية إن هي ظلت على حالها دون أن تمتد إليها يد الإنسان بالتحريف أو بالتشويه.
4- فرقة تؤمن بالحقيقة التي لا يتم الوصول إليها إلا عن طريق التجربة، لكنها لا تستطيع إلغاء التصور الذهني لهذه الحقيقة ذاتها! خاصة وأن العلماء التجريبيين ينطلقون من الفروض الذهنية في ارتباطها بالواقع، كما أنهم ينتهون بعد التجريب العملي إلى الصياغة النظرية أو العقلية التي تحققوا من صحتها بعد الاختبارات المتكررة!
وهذا لا يعني أن الممثلين لهذه الفرق لن يغيروا أبدا موقفهم مما يعتقدونه. فالارتيابيون يمكنهم التراجع عن إنكارهم للحقيقة على الإطلاق، لبواعث طارئة، أو لقناعات جديدة، بعد ممارستهم للشك فيما اقتنعوا به من قبل. وما قيل عنهم يقال عن الممثلين لكل فرقة على حدة. فكم من يهودي تنصر؟ وكم من نصراني تهود؟ بل من المسلمين من تنصر، أو تهود، أو تمجس، أو ألحد؟ وكم من يهودي أو مسيحي أو بوذي أو ملحد أسلم فحسن إسلامه؟ والأمثلة على ما ذهبنا إليه استنادا منا إلى الواقع، لا تعد ولا تحصى، وإن كان يحز في نفوسنا أن يتخلى أي مسلم عن دينه مهما كانت الأسباب!
غير أن الأهم عندنا في هذا السياق هو أن نعرف كيفية توظيف الشك الذي لا نستطيع إلغاءه؟ فإن تساءلنا: متى نشك؟ ثم حاولنا تقديم الإجابة كما تبدو لنا، فإن سؤالنا الثاني: كيف نشك؟ هو المدخل المتوقع للحلقة الرابعة من مقالنا هذا بحول الله!
الدكتور: أبو نجيب محمد