فإن مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، تؤكد على كمال هذا الدين وشموله كافة جوانب الحياة بأنواعها الدنيا، والبرزخية، والأخرى. ويتيقن المرء من هذه الشمولية لما تحويه هذه الكليات من تقسيمات إلى ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، مما يجعلها في مراتب متفاوتة تحول دون إغفالها شيئاً حتى لو كان صغيراً أو نادراً.
وفي القرآن العظيم، والسنة النبوية الطاهرة، والسيرة الشريفة العطرة، كثير من النصوص والوقائع التي تتغيا حفظ هذه المقاصد وحياطتها. كما أن أحكام الشريعة، والقواعد الفقهية والأصولية، وفتاوى العلماء الأعلام تراعي مقاصد الشارع الحكيم، وتنظر إلى جلبها، ودرء الفساد عنها؛ بعين مصلحية بصيرة؛ تراعي النصوص الثابتة، والمصالح الشرعية الأكيدة من تحقيق هذه المقاصد العظام.
وإذا رأينا داخل هذه المقاصد وما تشتمل عليه من فعل وترك، ووجود وعدم، لاحظنا أن لكل مقصد واجباً في عنق الأفراد تجاه أنفسهم أولاً، ثم نحو أهلهم ومجتمعاتهم، كما يتبين أيضاً الواجب المفروض على الحكومات لأنها مسؤولة أمام الله عن ولايتها وما صنعت بها. ولبعض المقاصد واجب أكبر وأخص على فئات بعينها؛ كحفظ النفس الذي ينصرف أكثر ما يكون للإدارات الطبية والأمنية.
وغالباً لا تقع هذه المقاصد مجتمعة تحت مسؤولية قطاع واحد؛ بحيث يكون داخلاً بعمق في تفاصيلها كلها من خلال أكثر أعماله ووجوه نشاطاته، باستثناء القطاع الإعلامي؛ الذي ينافس الولاية الشرعية في المسؤولية عن المقاصد بأنواعها، وبحسب ترتيبها في الأهمية، وطبقاً لمراتبها في الأولوية، وحسبما تجلبه من مصلحة، أو تدفعه من مضرة؛ لأن الإعلام بكافة وسائله أضحى لصيقاً بالناس أفراداً وجماعات، ومؤثراً قوياً في كل الشؤون ومناحي الحياة.
فالإعلام إذن يؤدي خدمة جليلة تجاه حفظ الدين؛ إذ يعلم الناس شؤون دينهم، ويوضح لهم أركان الإسلام والإيمان، ويعلي منزلة العلم بالشريعة وأهله القائمين عليه بنصح وصبر حتى يقام الدين الحنيف كما أراده الله سبحانه وتعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِـخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
والإعلام الرشيد يزيل الغربة عن الدين وعلومه ومفاهيمه، وما أولى هذه المفاهيم الدينية بحسن العرض، وجودة الإخراج، وكثرة التكرار؛ حتى ترسخ في ذهن المتلقي، ثم يعمل بها وبمقتضاها، والإعلام منبر للاحتساب الشرعي الميمون.
كما أن الإعلام وسيلة الذابين عن حياض الدين بالقلم واللسان والسنان؛ فما أحوج العالم للإعلام، وما أشد خدمة الإعلام للجهاد والمجاهدين؛ وما أحوجنا له للمنافحة عن ديار المسلمين التي باتت غرضاً يستلب، وحمى ينتهك، بذرائع داحضة، وأعذار واهية. ويتعاظم المطلوب من الإعلام المقاوم في زمن الغبش والغش والتشويش، وفي وقت باتت المفاهيم فيه منكوسة؛ حتى صار صد العدوان إرهاباً، والمشاركة في البغي العالمي تحالفاً من أجل «الشرعية»!
وللإعلام الواعي قدم صدق في الحفاظ على هوية المجتمعات الإسلامية؛ كي لا تذوب في أمواج عاتية من العولمة والتغريب، أو تختفي مع ظلام الإلحاد وظلم الغلو، فضلاً عن الانقضاض الممنهج من أعداء الإسلام وذيولهم على ثقافتنا الإسلامية، وحضارتنا الشامخة. ومن حفاظ الإعلام على الهوية بعد رعاية جانب الدين أن يدافع عن تاريخ الأمة الإسلامية وأمجادها، ويبرز الصورة الحقيقية لماضينا الناصع الجميل. ومن واجب الإعلام كذلك الذود عن اللسان العربي المبين وآدابه وما تعلق به؛ كي لا تبتلى الأمة بجيل هجين في لسانه؛ ومن استعجمت لغته، استعجم شعوره وتصوره وتفكيره وظاهره وباطنه؛ فكم للغة من أثر على عقل صاحبها ومشاعره.
وقد وردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة تَدُلُّ على تحريم الاعتداء على النفس، من ذلك قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وقوله عليه الصلاة والسلام: في أكبر اجتماع للناس يوم عرفة: «إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا…» (متفق عليه). ويتوسع معنى الاعتداء ليشمل القتل، وإتلاف الجزء من خلال فساد التطبيب، أو سوء التغذية، أو بالعدوان الصريح، ويشمل كذلك الانتحار، وجميع ما يضر بالصحة ويردي الجسد. ومن العدوان على النفس حرمانها من حقوقها الشرعية، أو التضييق عليها، وتعسير سبل بلوغها.
والإعلام النافع عدو أصيل للجريمة، ومدافع عن النفس البشرية، وحرمتها، وحقوقها، وأحد أكبر المناوئين لعملية تسليع الإنسان، والعبث به. ويجب أن يكون للإعلام موقف صارم تجاه إشاعة الجريمة، ووصف المجرمين بسمات جذابة زوراً، وهم ليسوا إلا حفنة من الأشرار؛ الذين حقهم التأديب والتعزير، لا أن يكونوا في موضع الاقتداء والتقديم. كما أن الإعلام الصحي يوازن فيما يعرضه من إعلانات بين القيمة الغذائية والأثر السلبي للمنتجات؛ فلا يغش جمهوره، ولا يجعل جني المال مقدماً على حماية الجسد من المطعومات والمشروبات والتصرفات الضارة.
وليس أوضح من أثر الإعلام في حفظ النسل أو تضييعه، هذا الحفظ الذي أمر الله به بقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 23]، حيث حرَّم فاحشة الزنا؛ لأنها تُضيِّع النسل والنسب، وتحدث خللاً كبيراً في استقرار المجتمعات، وشرخاً واسعاً في نسيجها العام. ولذلك فإن وجود الإعلام الأسري والاجتماعي المنضبط، يحمي مؤسسة الأسرة من التفكك، ويحافظ على مكوناتها من التضييع أو الإيذاء، وخاصة الطفل والمرأة وكبار السن.
ويتعاظم الجهد المطلوب من الإعلام الطاهر تجاه هذا المقصد لكثرة ولوغ وسائل الإعلام في نقيضه، ومحاربتها الفضيلة في الخلق والسلوك والملبس والقول والفعل، وتهوكها في الرذيلة إلى أدنى دركاتها، وأوحل وهداتها، حتى غدت الأجيال هدفاً للتفريغ السلوكي؛ كي لا يأبه الفتى لدين أو عرف، ولا تخجل الفتاة من خلق أو تصرف.
وقمين بالإعلام الهادف أن يكون له حضور ليس على صعيد مجرد الوعظ؛ بل بربط الناس بالأساس المتين للأخلاق، والمنبني على الإيمان بالدين، والخضوع لأحكامه، واستشعار عظمة الرب سبحانه بما له من أسماء حسنى، وصفات عليا، وصولاً إلى مرتبة الإحسان والمراقبة الذاتية، فإذا استوثقت عرى الإيمان، وبلغ المرء من محاسبة نفسه مبلغاً عظيماً؛ فحينها ستكون الرسالة الإعلامية ناجحة في هذا المضمار، وفي غيره من المقاصد والشؤون.
وعن حفظ العقل يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]، ولأن الخمر تُلحِق الضررَ الكبير بالعقل البشري فقد حرمها الشارع الحكيم. والإعلام الناضج يحترم هذه الخصيصة البشرية، ويسعى لتعزيزها وإعمالها؛ فلا يظهر المسكرات والمخدرات بما يحسنها ويجملها لا تصريحاً ولا تعريضاً، ولا يزري بقدرة المتلقي على التفكير والتمييز؛ بل يكون سبباً من أسباب امتلاك مناهج التفكير السليم، وأداة من أدوات صناعة الوعي؛ كي لا تصبح العقول استهلاكية تبلع كل ما يقذف فيها؛ بل تكون عصية إلا على ما يوافق أسس دينها، ومصالحها الشرعية المعتبرة.
ولأن حفظ المال مقصد شرعي كما في قول ربنا جل وعزّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 92]، حيث حرَّم المعاملات التي تُضيِّع المال، وتفسده على مستحقيه، فمن واجب الإعلام القيمي أن يكون معيناً على حفظ المال؛ وموجهاً لأخذه من حقه، ووضعه في مكانه الصحيح، وتثميره وتنميته بما يفيد ويعم خيره في الحال والمآل، وأن يقاوم السبل المشبوهة والمحرمة لجمع المال، أو إنفاقه في غير محله، أو حتى التعسف في استخدام الحق به.
ومن أجلِّ صنيع الإعلام إرشاد الناس للحكمة في الصرف والكياسة في الاقتصاد، كي لا تكون أموال الناس كريشة في مهب رياح التجار الذين لا يخافون الله، ولا يرقبون في الناس إلاًّ ولا ذمة، وأيضاً يوجه الإعلام أهل المال حتى لا يصبحوا عوناً لأعداء الأمة؛ خاصة وهم يجدون البديل، أو يقدرون على صنع بديل مناسب، فالتاجر المسلم ليس بعوضة تنقل الداء لأهلها، بل يشبه النحلة في النفع ولكن من غير لسع!
ويلمح الإعلام العلمي إلى فوائد معرفة مقاصد الشريعة، والعمل بها، كي تزداد ثقة الناس بدينهم، ويشتد تمسكهم به، فمن هذه الفوائد:
الفهم الصحيح للشريعة الذي يحول دون الغلو والجفاء.
تعميق فهم كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم منعاً للباطل من التأويل.
الوصول إلى الحكم الشرعي في النوازل التي لم يرد النص عليها.
التيسير على الناس في دينهم ودنياهم.
ولما للإعلام ووسائله من حضور عميق في خدمة الشريعة ومقاصدها؛ وحيث إن هذه الوسائل في تطور مستمر، وتشارك متزايد مع الناس في حياتهم الخاصة قبل العامة؛ فهذه بعض المقترحات العملية لخدمة الإعلام، وللإفادة القصوى منه؛ لعل الله أن ينفع بها:
أهمية التخصص الأكاديمي في الإعلام بجميع أقسامه الحديثة والقديمة، فمن غير الملائم خلو هذا التخصص من أهل الفضل والغيرة.
ضرورة اكتساب الخبرة العملية في الممارسة الإعلامية؛ من خلال البرامج التدريبية، والتدريب العملي، والاحتكاك بالخبراء، وتمهير الإعلاميين سواء بجهود ذاتية أو مؤسسية.
مساندة أهل العلم والفكر للإعلاميين من خلال فتح الباب لهم للسؤال والمناقشة والإفادة.
استجابة أهل العلم والفكر لوسائل الإعلام بالمشاركة التفاعلية استضافة أو تعليقاً أو كتابة؛ فضلاً عن مشاركتهم في الوسائل التي في متناول اليد؛ كمنصات التواصل الاجتماعي.
الدعم المالي للأعمال الإعلامية، فالإعلام مستهلك كبير للمال، ولا يمكن أن تكون الرسالة الإعلامية احترافية في شخوصها ومضامينها وطرائقها بدون أموال ضخمة.
الوقف على الإعلام، وهو من خير ما يكون؛ لأن الواقف على الإعلام يدخل في أبواب كثيرة، فهو مبلغ للدين، وناشر للعلم، وآمر بالمعروف وناه عن المنكر، ومدافع عن الحقوق، ومقاوم للباطل، وبالجملة فله سهم وافر في كل مقصد من مقاصد الشريعة الغراء.
ترشيد الإعلام من خلال البحوث والدراسات المنطلقة من أسس شرعية، ومراعية للمهنية والعلمية في التعاطي الإعلامي.
وحين نسمع قول ربنا العظيم في كتابه العزيز: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، وقوله كذلك: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان } [المائدة: 2]، فلا يسعنا إلا أن نيمم النظر صوب الإعلام الهادف؛ ليكون مركبنا لتحقيق هذه الأوامر الربانية، والاستجابة لها، وكم في ذلك من أجر وخير يبقى ويتنامى؛ ولعله أن يكون عند الله في موضع القبول والتنمية. (مجلة البيان).