تأملات في العقيدة والمنهاج بقلم: العلامة الدكتور الحسن وجاج طلائع الغزو الفكري مرابطة في مؤلفات الخلف الحلقة الرابعة

 النموذج الثالث: تأويل صفات الله تعالى

عملية التأويل تتكون من مراعاة أحكام العقل ومن مقتضى الحقيقة والمجاز، أما التأويل نفسه فهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وأما الحقيقة والمجاز فمراد المؤولة منهما التمويه بأن ظاهر اللفظ مجاز وأن تأويله وصرفه عن ظاهره هو الحقيقة، وأما العقل فدوره في التأويل أساسي لأن المقصود من عملية التأويل هو الاستجابة لأحكام العقل على حساب نصوص الوحي، ومعنى ذلك في نظرهم هو أن ظاهر نصوص الوحي غير مراد، ومن ثم يجب صرفها عن ظاهرها لتوافق أحكام العقل، وبعبارة أخرى فإن التأويل عملية ماكرة يراد من ورائها تقديم أحكام العقل على أحكام الوحي، وهو الجانب التطبيقي لعلم الكلام وعلم المنطق، وقد تنبه علماء السلف لخطر التأويل في وقت مبكر فحذروا منه، وليس مراد السلف التحذير من كل ما يسمى تأويلا وإنما يقصدون التأويلات الفاسدة، وفي ذلك يقول شارح الطحاوية: “وليس مراد الطحاوي ترك كل ما يسمى تأويلا وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة المخالفة لمذهب السلف، والتي يدل الكتاب والسنة على فسادها، وترك القول على الله بلا علم، ومن التأويلات الفاسدة تأويل أدلة الرؤية وأدلة العلو وأنه تعالى لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا”اهـ.
فالتأويلات الفاسدة إذن نتائج حتمية لعلم الكلام وصناعة المنطق لأن الغاية منها تقديم أحكام العقل على نصوص الوحي، ومن ثم اعتبرت تحريفا في نظر السلف وإن سماها أهلها تأويلا، ورغم كراهة السلف لمذهب التأويل وتحذيرهم من عواقبه كان هو المنهاج المفضل عند خلف أهل السنة، وصور تفضيله متنوعة؛ فمرة يقارن بينه وبين منهاج السلف فيقال: “طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم”! ومرة يزعمون أن ظواهر النصوص توهم التشبيه، وفرارا من هذا التشبيه المزعوم يقترحون أمرين اثنين: إما التأويل وإما التفويض كما قال اللقاني في جوهرته:
وكل نص أوهم التشبيها *** أوِّله أو فوض ورم تنزيها
ومرة ثالثة يقولون بوجوب تأويل النصوص ويموهون على من لم يطلع بأنها أمر مجمع عليه، كما قال المقري في الإضاءة:
والنص إن أوهم غير اللائق *** بالله كالتشبيه بالخلائق
فاصرفه عن ظاهره إجماعا *** واقطع عن الممتنع الأطماعا
ومنذ ظهر مذهب التأويل على يد الفرق الضالة؛ وعلماء السلف يقاومونه ويحذرون من عواقبه؛ وهكذا فإن كثيرا من مؤلفات علماء السلف في القرن الثاني والثالث تستهدف محاربة أهل التأويل، ومن جملة تلك المؤلفات: كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام، وكتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد، وكتاب الرد على الجهمية للإمام البخاري، وكتاب الرد على الجهمية لابن قتيبة، وكتاب الرد على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي، والرد على بشر المريسي لعثمان المذكور، وهناك منبهة الإمام الداني من أهل القرن الخامس تتضمن ردودا قوية على الفرق الكلامية المتطرفة، وعلى من شذ من أهل السنة في بعض أصول الاستنباط كأبي حنيفة وداود الظاهري.
وهناك ردود قوية مفصلة لابن تيمية -وهو من أهل القرنين السابع والثامن- موجهة لأهل التأويل؛ وفي بعض تلك الردود يقول: “ومما ينبغي أن يعلم أن ألفاظ الكتاب والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم”. ويقول أيضا: “وقد عدلت المرجئة في هذا الأصل عن بيان الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان واعتمدوا على رأيهم وعلى ما تأولوه بفهمهم اللغة، وهذه طريقة أهل البدع، ولهذا كان الإمام أحمد يقول: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم وما تأولوه من اللغة وتجدهم لا يقدرون على أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة التابعين وأئمة المسلمين، فلا يعتمدون لا على السنة ولا على إجماع السلف وآثارهم، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها رؤوسهم وهذه طريقة الملاحدة أيضا إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة وكتب الأدب واللغة، وأما كتب القرآن والحديث والآثار فلا يلتفتون إليها، هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم وأولئك يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم”.
قلت: وقريب من هذا الكلام ما وصف به تفسير ابن عطية إذ يقول: “وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة والجماعة وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير ابن جرير ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة، ولكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه وأن يعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب”.
وأخيرا هناك من علماء موريتانيا من أعرض عن التأويل وحذر منه؛ مثل بابا ولد الشيخ سديا ومحمد الأمين الشنقيطي الذي اعتبر تأويل أهل الكلام من باب التلاعب بالقرآن، والشيخ بداه الذي رد على المقري الإجماع المزعوم في باب التأويل والشيخ محمد سالم الذي وضح الفرق بين الظاهر في قول بابا والظاهر في قول المقري بطريقة ذكية والشيخ أحمد ولد المرابط الذي أنشد قوله:
وينفي القول بالتأويل أيضا *** فتأويل الصفات هدي اليهود”
وأبلغ من هذا كله قول ابن القيم: “العقل والمجاز والتأويل طواغيت ثلاثة”.
هذه صور من مقاومة السلف وبقية السلف لبدعة التأويل، ومع ذلك ما زال يتمتع بتقدير الخلف ويفضلونه على الأخذ بظاهر الآيات ويعلن الصاوي وهو من الخلف أن الأخذ بظاهر القرآن أصل من أصول الكفر، فأي غزو فكري أشد على عقول المسلمين من هذا؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *