أوروبا الصليبية تحارب الإسلام! والمغرب الرسمي هل يسالمه؟ الدكتور محمد وراضي

في العدد 473 ليوم الخميس 10 ماي 2012م من جريدة “الوطن الآن” وقفنا في الصفحات 22-23-24 على مقال يثير الانتباه، ويشد اهتمام القارئ إليه بقوة لما يشخصه من غيرة على الدين لا نشك في صدقها ولو للحظة واحدة. والمقال من إعداد: يوسف خطيب تحت عنوان: “الوطن الآن ترصد الحرب الحضارية ضد الإسلام في أوروبا الصليبية”. هكذا بهذا الوصف القدحي الذي يقف من ورائه العداء التاريخي الغربي المعروف لديننا ولأهله.
ولم يكن منا غير طرح هذا التساؤل الذي سوف يثير -بدون ما ريب- أكثر من علامة استفهام: فإن كانت أوروبا الصليبية تحارب الإسلام، فهل المغرب الرسمي يسالمه ويهادنه؟
هذا التساؤل يستدعي تساؤلا آخر يفرض نفسه في سياق التعامل مع الدين عبر العالم برمته: عن أي إسلام نتحدث؟ والحال أنه آخر الأديان السماوية العالمية المتميزة الواضحة المعالم؟
مهما تكن الردود المتوقعة منا ومن غيرنا على الاستفهامات المطروحة هنا بإلحاح؛ لا بد من التنصيص على أننا نتكلم عن دين واحد، وحتى إن بدا أنه متنوع، فلأن هناك خلطا بينه -كخطاب إلى البشرية جمعاء- وبين فهم الناس لمضامينه كأفراد وكجماعات. وهذا أمر طبيعي لا مغمز فيه، لأن قدراتهم على إدراكها قدرات متباينة لعوامل موضوعية ولأخرى ذاتية. نتحدث عن علماء وفقهاء، ومحدثين ومفسرين كمستقلين غير منتمين إلى أية فرقة أو جماعة أو طائفة. كما نتحدث عنهم وهم يتحركون في قلب طوائف بعينها منذ بدأت هذه تظهر إلى الوجود، تاريخيا وبالتحديد على إثر حادثة الدار، أو على إثر مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، ارتدت الطوائف هذه رداء السياسة، أو ارتدت رداء الدين، أو ارتدت الرداءين كليهما في الآن ذاته. دون ما ادعاء منا بأن الدين كان في لحظة تاريخية ما منفصلا عن السياسة انفصالا أشبه ما يكون بالطلاق البائن!
فإن توفر للمسلم في الزمن القديم مجال لاختبار الفرقة التي يريد الانخراط في صفوفها، بعد اقتناع منه بأفكارها، فإنه لا يعدم مبررات دينية وسياسية وأحيانا عصبية قبلية لاختياره. إنه بمقدوره أن يصبح من الشيعة، أو من الخوارج، أو من المرجئة، أو من المعتزلة، أو يظل في صفوف أهل السنة والجماعة الذين وصفهم مالك بن أنس بأنهم من لا يحملون أي اسم من الأسماء التي تحملها بقية الفرق المتفرعة عنها؛ فروع من الصعب حصر أعدادها في عجالة.
وهناك قاعدة ذهبية معدودة من المسلمات التي لا تقبل لا النقد ولا الإبرام؛ وهذه صيغتها: كل بناء لا بد له من قاعدة. والسلف بالنسبة للخلف قاعدة، مما يعني أننا كلنا سلفيون. فمن لم يرتبط حاليا بسلفيتنا التي هي مزيج من النظري والتطبيقي، ارتبط بسلفية غيرنا وإن لم تكن لأجدادنا أية صلة بتأسيسها (السلفية تراث والتراث سلفية!).
فنحن -كمجرد مثال- لم نضرب بنماذج من تطبيقات ومن ممارسات أسلافنا المادية عرض الحائط، بل إننا جسمناهما فيما يعرف بـ”الصناعة التقليدية”. كما أننا لم نضرب بنماذجهم من الأفكار والتأملات عرض الحائط، وإنما تولينا إحياءها كتراث أدبي وديني وعلمي وفلسفي.
وبما أن اقتناعنا مؤكد بالصراع والتدافع والتداخل والتلاقح، كمسلمة من مسلمات الوضع البشري وتحوله من حال إلى حال. فإن الدين لم يكن ولن يكون أبدا عبارة عن خطاب تجريدي للتلهي، موجه إلى أشباح لم تكن لهم بالحياة الآدمية صلة، فكان أن شارك -كدين جديد- في البناء المنظم، لا في الهدم، منذ أول عهده بالظهور.
فاعتبار وأد البنات وقتل الأولاد وزواج الاستبضاع وزواج الرهط؛ فظاعة منكرة، وفي الوقت ذاته بناء وتقدم ورقي. فإن المساواة والأخوة والكرامة والشورى والعدل والحرية من مبادئه الأساسية. هذه التي تجري على الأرض، ومبلغ رسالة الله ماض في الإخبار بضرورة إخلاص الوجهة لإله واحد، لا لعدة آلهة بشرية أو حجرية أو طبيعية.
وهذه الأطروحة دعوة إلى التخلص من كل أشكال العبودية قبل الثورة الفرنسية، وقبل غيرها من الحركات التحررية التي عرفها العالم بعد قرون من بعثة المحرر، الذي فتح الباب أمام التقارب والتعارف والتعاضد بين الشعوب والأمم والقبائل لأهداف من بينها: تعمير العالم بما يعود على البشرية بالنفع الذي لا يستثني أي إنسان على وجه الأرض من الاستفادة منه.
وبما أن الصراع تاريخيا محتدم في صورته المعاصرة، بعد أن ظهرت علينا الإمبريالية العالمية، بين اتجاهات علمانية: ليبرالية واشتراكية ديمقراطية، واشتراكية علمية (= شيوعية)، فإن خصوم القناعات التي يحملها كل هؤلاء الفرقاء، لم يبقوا من حيث هم متفرجين حياديين سلبيين، وإنما دخلوا بدورهم حلبة المواجهة لنفس الأهداف الممثلة هنا في خدمة الشعوب. وهم في مواجهاتهم للخصوم الإديولوجيين متسلحين بقناعات مؤداها أولا: فشل الحلول المستوردة؟ ومؤداها ثانيا طرح الحل الإسلامي كبديل. مما أدى إلى تنوع معاصر في فهم الدين يتراوح من هم وراءه بين رساليين متسننين، وتقليديين، وأصوليين، وسلفيين، وإسلاميين متشددين، وآخرين مسالمين متمايلين، وآخرين مستسلمين خنوعين! بغض النظر عن الأسماء والمسميات، والصفات والموصوفين بهذه الصفات! فضلا عن ضلاليين يرفعون الهامات معتقدين أنهم على حق! وعن ضلاليين مشعوذين مجرورين مطواعين!
وبما أن اليسار السياسي قد اختار العنف منذ عقود لفرض آرائه بالقوة، فإن من يسمونه اليسار الإسلامي -هذا إن صح التعبير- قد اختار مواجهة خصمين لدودين: قادة الأنظمة الديكتاتورية، والغرب الصليبي الذي وفر ويوفر للأنظمة المتسلطة هذه على شعوبها غطاء من الحماية اللامشروعة، حتى ولو أن ما يوفره لها من غطاء، يتقاطع مع زعمه العلني الذي طالما صب في خانة الانتصار للحرية والديمقراطية ومسمى حقوق الإنسان، فإنه في الباطن إنما يعمل لحماية مصالحه، ولضمان تدفق أموال الطغاة والجبابرة والنهابين في بنوك ومصارف بلدانه.
فتتأكد لعبته لمن لا يهمهم غير الانتصار -كمبدئ لا يتزحزح عنه- للمظلومين. فكان أن هوجم لمرات في وطنه وعلى أرضه. وكان أن جاهر بعدائه للإسلام، إحياء منه للحروب التي أدت بأجداده إلى احتلال بيت المقدس وما حولها لما يزيد على قرن من الزمن. بل إلى إيجاد بؤر من التوتر والنزاع الطائفي الذي يحرك الآن بقوة لبنان. وكأنه برميل بارود مع التلويح بشعار: “الدين لله والوطن للجميع”!
هذا الشعارالذي يحمله الغرب كلما كان لديه إحساس بما يهدد مصالحه التي تتقدم في الواقع على كل مبادئه الإنسانية التي يلوح بها في مناسبات، يعرف جيدا قبل غيره، كيف يستغلها لصالح شعوبه!
إنه إذن بالرغم من تصريحاته الدالة على كونه ضد ممارسات المتشددين من غلاة المتدينين كالمنتمين إلى تنظيم القاعدة لا ضد الإسلام ككل، فإن حرق المصاحف والتبول عليها، ودوسها بالأرجل، وقطعها إربا إربا، وتعرض الحق سبحانه ونبينا للسخرية عبر صور كاريكاتورية، يدخل عليه ما لا يمكن تصوره من سرور، بينما يدخل ما نسمعه عنه من كلام معسول، أو ما يرتسم على وجهه من ابتسامات صفراء، يدخل في باب المجاملة التي تطل من ورائها رغبته في الحفاظ على تدفق الذهب الأسود وقيمته المالية لفائدة مواطني بلده الذين تعودوا -ولأعوام طوال- امتصاص دماء أهالي المستعمرات بطرق مباشرة، قبل استقلالها الصوري! ثم بطرق غير مباشرة وملتوية بالرغم من استقلالها في الظاهر دون الباطن!
فلما شعر الغرب الصليبي أن المارد الإسلامي قد انطلق من عقاله، وأنه الخطر الداهم المرتقب الذي يهدد في الأفق القريب والبعيد كل الخطط الاستعمارية، التي يمكن أن تنقلب رأسا على عقب. فكان أن وضع استراتيجية عند تطبيقها يتحقق له هدفان:
1- تعميم التنصير قبل نهاية القرن العشرين الماضي. وهذا المخطط الذي شارك فيه الرئيس الأمريكي جورج بوش -كمسيحي متعصب- بكل ما أوتي من دهاء ومكر وخداع، وبكل ما حوله من خبراء ومستشارين، أصيب بالفشل الذريع.
2- منع الإسلام الحق النقي الطاهر من إدارة شؤون أية دولة. فتدخلت لهذه الغاية منظمات وجهات تتولى الإغواء والإغراء! بينما تتولى منظمات وجهات غيرها التهديد والوعيد! مما يعني أن الإسلام الذي تريده أمريكا وحلفاؤها الغربيون الصليبيون، هو نفسه الإسلام الذي فرض على الحكام المسلمين العمل على بلورته وتقريبه وإطراء من يقفون وراءه، وإسناد المهام الرسمية إلى ممثليه وهو هنا نوعان:
1- إسلام علماني محض! أو بعبارة أخرى: إسلام لا يرى أي مانع من القبول بالعلمانية التي يرسو عليها النظام الليبرالي. والعلمانية واليبرالية -كما نعلم- فلسفتان، كلهم أنصار الصليب، الإبقاء عليهما حتى لا يؤول أمرهما إلى ما هو عليه حال الدول الإسلامية قبل خضوعها للاحتلال الغربي بقرون! مما يعني أن انضمام الإسلاميين إلى صف العلمانيين الليبرالاويين (من لوى يلوي)، والاشتراكاويين (من كوى يكوي)، لا يشكل أي خطر على الأنظمة المتحالفة مع الغرب الصليبي! حيث إن الطرفين كليهما يتوجسان خيفة ظهور الإسلام النظيف على غيره من إسلام الواجهة أو من إسلام مدجن متخاذل!
2- إسلام الدروشة والاسترزاق والتحايل في صورته المعاصرة. تمثل في القبورية (عبادة الموتى)! أو تمثل في أصحاب الطرق الصوفية (خصوم الرسول أو أعداء السنن)! وهما معا يمارسان طقوسا غريبة عن ديننا الحنيف! بقدر ما يجسدان الفكر الظلامي المتقاطع مع المعتقدات والأخلاق والعبادات المسنونة. وهي كلها -من المنظور الصوفي- متناقضة مع منطق الدين، ومنطق العقل الناقد المتبصر، ومنطق التجربة المحسوسة بالسمع والبصر، وحتى بالشم والذوق متى التأم الزوار واجتمعوا حول مأدبة قوامها القربان الذي يذبح للتقرب به إلى ولي هو عند قصاده مقدس محترم! مما حدا بخصومنا الصليبيين إلى طبع مسمى “تدبير الشأن الديني” عندنا بطابع مؤثر وراءه أهداف غير بريئة بالمرة! وذلك بما يتوفرون عليه من ثقل مادي، يعضده ثقل معنوي، ويقويه ثقل إعلامي!
وهذا ما تفسره مجموعة من اللقاءات والمنتديات التي يتم فيها الاشتغال بالفكر الصوفي ذي الأبعاد الرجعية، كظاهرة يتم لمختلف الوسائل المعادية للدين حشر أكبر قدر ممكن من أفراد الأمة في أحشائها! حتى لا ينخرطوا في جماعات تحمل مشروعا رساليا يهدد الغرب وحلفاءه الذين يقفون وراء تشجيع المشايخ كزعامات، كل ما يهمها هو الإطراء والامتداح، وتحصيل أكداس من الفتوح والهبات والأعطيات! حتى ولو كانت في صورة خرفان! أو عجول لها خوار! أو بقرات سمان!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *