كان الإمام في مجتعنا وإلى عهود قريبة أحسن حالا من كثير من الموظفين، فهو صاحب القرار في محيطه، وصاحب المشاورة، وخاتم العقود كيفما كانت ومباركها، وصاحب الفتوى الذي يعلم ما يعيشه دواره أو دشره أو قلعته من مستجدات وأحداث، ومكون الأجيال والطلبة، فضلا عن إمامة الصلوات والوعظ.
أما وضعيته؛ فإن الناس يعظمونه أيما تعظيم، ويجلونه فوق كل أحد، وأيضا كانوا يخافون من تبعات إذايته، إذ هو في معتقدهم أحد أولياء الله عز وجل الذين وعد بالدفاع عنهم. ونصيبه من كل محصول زراعي أول نصيب، فقد كان يعيش رفاهية قريبة من رفاهية السلطة الحاكمة في محيطه.
ثم توالت عليه الأيام، واستطاب الناس الجهل الذي يعيشون فيه، واحتقر الإمام مسؤوليته، وفرط في ما يجب عليه تجاه الكتاب العظيم الذي في صدره، فأصبح يسترزق بالرقى والتعاويذ، والسحر والشعوذة، والكتابة في الأواني، ويتأكل بالقرآن في كل دعوة يدعى لها، ويبيع الأدعية لطالبيها، فأصبح تحت ضغوط الجماعة يأتمر لكل أمر ولو كان مخالفا لما يعلمه من القرآن، ويسوغ لكل مسألة أرادها وجهاء القبيلة حتى ولو كانت غير مقبولة شرعا.
ثم أتى عليهم دهر أصبحت فيه لهم وزارة معنية، أخذت على عاتقها الدفاع عن حقوقهم، والنظر في شؤونهم، وتنظيم أعمالهم وترشيدها، غير أنهم بقوا في ظل أغنى وزارة يحضرون للهبات توزع على أضرحة الميتين، وقباب الأجساد التي أكلها التراب، ثم لا يكون حظهم إلا فتات يلقى في أيديهم بعد أن يختموا المجلس بالدعاء.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أذلوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تهجما
وليتك تحضر حينما يُوَجّه إمام من الأئمة إلى الإدارة فترى الذل يعلوه، ويزيد خفقان قلبه وخوفه من أن يعزل، وينوء فكره بهموم مصيره بعد العزل ومصير أسرته، ويطبخ ذهنه بالتوجسات والتوقعات السيئة، وهو يعلم حق اليقين أن ليس بينه وبين العزل إلا كلمة أو اثنتين، مما يجعله يقف أمام المسؤول وقوف الجاني المعترف، منحني الرأس متلعثما.
ناهيك عن التهديدات التي يتلقاها ممن لهم الشأن في جماعة المسجد، فلا يعترض على رأي، ولا يكاد يرد يد لامس، تكاد تنقضي أنفاسه وهو ينتظر انقضاء الشهر ليأخذ أجرته الهزيلة، فينظر إليها نظر الإشفاق لعدم كفايتها لسد حاجياته اليومية، لتتشوف نفسه إلى راتب الجماعة؛ أيمسكه على هون أم يمدّ يده إلى المحسنين؛ هل ستجود نفوسهم بما يكفي ليعول أبناءه.
ومن بركة وزارتنا أنها ألجأت الأئمة ليخرجوا زرافات ووحدانا في مسيرات واعتصامات بالعاصمة مطالبين بتحسين وضعياتهم، فلله كم هي فظيعة تلكم الصورة الذي تناقلتها أعين الجوالات، حينما زركشت جلابيب الأئمة شوارع العاصمة ببياضها، وعصي القوات تطاردهم. هذا حال أئمتنا، والكل يعرفه، وإنما قصدت لفت انتباه المعنيين بالأمر من أجل الإصلاح لا غير.
لقد آن الأوان أن تنظر الوزارة المعنية في هذه الشريحة العريضة من أبناء المغرب ونخبتها، وتصون شرفها ومكانتها، وتعمل على إقامة دورات تكوينية، تكوينا رصينا وفق الأدلة الشرعية، وما عليه إمامنا مالك حقا، دون الانصياع لضغوط جهة أو أخرى، وتحول دون المناوشات التي يتعرضون لها من لدن بعض من تكون كلمتهم مسموعة في المسجد.
كما لا أنسى أن أوجه نداء إلى الأئمة ليقدروا قيمة ما يحملون، فلا يتذللوا من أجل كسرة خبز، فالعلم وأهله معظمون في جميع الشرائع، فما لهم إلا أن يعتزوا بما هم حاملون، وليعملوا بمقتضاه، وليتكلموا ولينصحوا الناس ويرشدوهم بمؤداه، فمتى كان الإنسان بهذه الصفة صان نفسه وأعزها، وبنى لها شأنا لا يرام، وكسب بها رضى الله سبحانه وتعالى قبل الناس، فيرضي الله عنه الناس، أما وإن حام حول رضى الناس بسخط الله والقول عليه بغير علم، فإنه لايزال في حضيض الذل، وإن رضي الناس عنه حينا فإنه لا يدوم له ذلك، كما لا يمكن أن يرضيهم كلهم. وما أحسن أبيات الشيخ علي بن عبد العزيز الجرجاني:
أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أُكرما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لَأخدم من لاقيت لكن لأُخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلةً إذا فاتباع الجهل قد كان أسلما
ومما أصبح مشاهدا ظهور أئمة شباب لهم غيرة على وطنهم، ويحملون همّ إصلاحه، فيبادرون إلى إنكار كثير من العوائد والظواهر السيئة في محيطهم، فيعود عليهم ذلك بالعداء من طرف بعض الناس الذين ليس لهم علم، وهو أمر عادي يتوقع حصوله بعد الإعلان عن أي تغيير، وقد حكى الإمام الشاطبي المغربي وهو أحد أساطين الأئمة المالكية ت 790هـ؛ ما عاناه مع جماعته الذين كان يؤمهم قائلا: “كُنْتُ.. قَدْ دَخَلْتُ فِي بَعْضِ خُطَطِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْخَطَابَةِ وَالْإِمَامَةِ وَنَحْوِهَا، فَلَمَّا أَرَدْتُ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى طَرِيقٍ؛ وَجَدْتُ نَفْسِي غَرِيبًا فِي جُمْهُورِ أَهْلِ الْوَقْتِ؛ لِكَوْنِ خُطَطِهِمْ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْعَوَائِدُ، وَدَخَلَتْ عَلَى سُنَنِهَا الْأَصْلِيَّةِ شَوَائِبُ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ الزَّوَائِدِ.. فَتَرَدَّدَ النَّظَرُ بَيْنَ أَنْ أَتَّبِعَ السُّنَّةَ عَلَى شَرْطِ مُخَالَفَةِ مَا اعْتَادَ النَّاسُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ نَحْوٍ مِمَّا حَصَلَ لِمُخَالِفِي الْعَوَائِدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا ادَّعَى أَهْلُهَا أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ السُّنَّةُ لَا سِوَاهَا، إِلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ الْعِبْءِ الثَّقِيلِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ الْجَزِيلِ، وَبَيْنَ أَنْ أَتْبَعَهُمْ عَلَى شَرْطِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ، فَأَدْخُلَ تَحْتَ تَرْجَمَةِ الضُّلَّالِ عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا أَنِّي أُوَافِقُ الْمُعْتَادَ، وَأُعَدُّ مِنَ الْمُؤَالِفِينَ لَا مِنَ الْمُخَالِفِينَ؟!
فَرَأَيْتُ أَنَّ الْهَلَاكَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ هُوَ النَّجَاةُ، وَأَنَّ النَّاسَ لَنْ يُغْنُوا عَنِّي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَأَخَذْتُ فِي ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ التَّدْرِيجِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، فَقَامَتْ عَلَيَّ الْقِيَامَةُ، وَتَوَاتَرَتْ عَلَيَّ الْمَلَامَةُ، وَفَوَّقَ إِلَيَّ الْعِتَابُ سِهَامَهُ، وَنُسِبْتُ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَأُنْزِلْتُ مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهَالَةِ.
وَإِنِّي لَوِ الْتَمَسْتُ لِتِلْكَ الْمُحْدَثَاتِ مَخْرَجًا لَوَجَدْتُ؛ غَيْرَ أَنَّ ضِيقَ الْعَطَنِ وَالْبُعْدَ عَنْ أَهْلِ الْفِطَنِ رَقَى بِي مُرْتَقًى صَعْبًا وَضَيَّقَ عَلَيَّ مَجَالًا رَحْبًا، وَهُوَ كَلَامٌ يُشِيرُ بِظَاهِرِهِ إِلَى أَنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهَاتِ، لِمُوَافَقَاتِ الْعَادَاتِ، أَوْلَى مِنِ اتِّبَاعِ الْوَاضِحَاتِ، وَإِنْ خَالَفَتِ السَّلَفَ الْأَوَّلَ. وَرُبَّمَا أَلَمُّوا فِي تَقْبِيحِ مَا وَجَّهْتُ إِلَيْهِ وِجْهَتِي بِمَا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ الْقُلُوبُ، أَوْ خَرَّجُوا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْفِرَقِ الْخَارِجَةِ عَنِ السُّنَّةِ شَهَادَةً سَتُكْتَبُ وَيُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَنْفَعُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ كَمَا يُعْزَى إِلَى بَعْضِ النَّاسِ، بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمِ الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الْإِمَامَةِ..
وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى الرَّفْضِ وَبُغْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمْ ذِكْرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْهُمْ فِي الْخُطْبَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ السَّلَفِ فِي خُطَبِهِمْ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي أَجْزَاءِ الْخُطَبِ. وَقَدْ سُئِلَ أَصْبَغُ (أحد رواة مذهب الإمام مالك) عَنْ دُعَاءِ الْخَطِيبِ لِلْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ؟ فَقَالَ: هُوَ بِدْعَةٌ وَلَا يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ، وَأَحْسَنُهُ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّة..
وَتَارَةً حُمِلَ عَلَيَّ الْتِزَامُ الْحَرَجِ وَالتَّنَطُّعُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنِّي الْتَزَمْتُ فِي التَّكْلِيفِ وَالْفُتْيَا الْحَمْلَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ لَا أَتَعَدَّاهُ، وَهُمْ يَتَعَدَّوْنَهُ وَيُفْتُونَ بِمَا يُسَهِّلُ عَلَى السَّائِلِ وَيُوَافِقُ هَوَاهُ، وَإِنْ كَانَ شَاذا فِي الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ أَوْ فِي غَيْرِهِ.
وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُعَادَاةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنِّي عَادَيْتُ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ الْمُنْتَصِبِينَ بِزَعْمِهِمْ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَتَكَلَّمْتُ لِلْجُمْهُورِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسهم إلى الصوفية..
وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي أُمِرَ بِاتِّبَاعِهَا وَهِيَ النَّاجِيَةُ مَا عَلَيْهِ الْعُمُومُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَكَذَبُوا عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، أَوْ وَهِمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ” اهـ مختصرا.