محمد بن إسماعيل البخاري لو تعرف عنه أكثر أحمد اللويزة

في هذا المقال المختصر نسلط الضوء على رجل يحقُّ لنا أن نصفه بالظاهرة، ففي قصة حياته الأحوال الباهرة والعبر السافرة، ونجدد اللقاء مع الماضي من خلال ائتلاف الأرواح المؤمنة التي تلتقي حيث يشاء الله عز جل، كما نحاول فتح الأعين على رجل ممن مضى يسمع عنه جل المسلمين ولا يعرف حقيقة أمره إلا القليل.

من هو البخاري؟
هو محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي مولاهم إمام المحدثين وسيد الحفاظ توفي سنة 256هـ، تربع على عرش الرواية والنقد والتعليل والاستنباط في زمانه وبلغ مبلغا جعله يلقب بأمير المؤمنين في الحديث يشهد لهذا ما حكاه عن نفسه وما شهد به شيوخه قبل أقرانه وتلامذته.

نبوغ مبكر مع سعة الحافظة وقوة الفهم والملاحظة
ظهرت عليه علامات النبوغ منذ صباه فقد حفظ القرآن وهو صغير جدا ثم بدأ يختلف إلى المشايخ وهو غلام، يقول حاشد بن إسماعيل: “كان البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أياما وكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب فما منعك فيما تصنع؟ فقال لنا بعد ستة عشر يوما: “إنكما قد أكثرتما علي وألححتما فأعرضا علي ما كتبتما فأخرجنا ما كان عندنا فزاد على خمسة عشرة ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نُحكّم كتبنا على حفظه”.
ما أعظمها من ذاكرة حباه الله بها مع حسن الملاحظة وقوة على الضبط ومراجعة الأكابر بكل ثقة في النفس كل ذلك في سن مبكرة يقول فيما يحكيه عن نفسه: “..ثم خرجت من الكتاب فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره فقال يوما فيما كان يقرأ للناس سفيان عن أبي الزيبر عن إبراهيم فقلت: إن أبا الزبير لم يسمع من إبراهيم، فانتهرني، فقلت: ارجع إلى الأصل إذا كان عندك، فدخل فنظر فيه ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام؟ فقلت الزبير -وهو ابن عدي- عن إبراهيم فأخذ القلم وأصلح كتابه وقال لي: صدقت، كل هذا وهو ابن إحدى عشرة سنة.
ومن تجليات العبقرية عند الإمام البخاري أيضا حفظ الكتب والتصنيف الدقيق في وقت مبكر يقول: “لما طعنت في ست عشرة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء، يعني أصحاب الرأي، ولما طعنت في ثمان عشرة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين، ثم صنفت التاريخ في المدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم”.
ولسعة حفظه امتلأت ذاكرته بمئة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، وانتقى حديث جامعه من ستة مئة ألف حديث.

شهادة واعتراف لا مثيل لهما في التاريخ
لقد شهد بفضله وسبقه المشايخ قبل التلاميذ والأقران، قبل المعاصرين والأكابر، قبل الأصاغر، فعن عبدان بن عثمان المروزي قال: “ما رأيت بعيني شابا أبصر من هذا وأشار إلى محمد بن إسماعيل”.
فهو المقدم عندهم في معرفة العلل والأسانيد فهذا شيخه محمد بن يحيى الذهلي يسأله عن الأسماء والعلل، والبخاري يمرّ فيها مثل السهم، كأنه يقرأ “قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ” كما حكى ذلك أحمد بن حمدون الحافظ.
ويقول الترمذي وهو من تلامذته: “لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل”، فما أخبره بالعلل الخفية التي يعجز عنها الأكابر مثل مسلم والذي جاءه بحديث كفارة المجلس وقال له ما في الدنيا أحسن من هذا الحديث؟ فقال له البخاري على البديهة إنه معلول، فقال مسلم: لا إله إلا الله وارتعد وقبل رأسه، وكاد يبكي، وسأله أن يخبره بها ثم قال: “لا يبغضك إلا حاسد وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك”، إنها شهادة من عظيم في عظيم بل كان يقول له في تذلل: “دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله”، ما أعلاها من أوصاف وأعظمها من نعوت.
وهذه شهادة أخص شيوخه علي بن المديني إذ لما بلغه أن البخاري يقول: “ما استصغرت نفسي عند أحد إلا ابن المديني فقال لمن نقل إليه الخبر: دع قوله، هو ما رأى مثل نفسه” وأكثر من ذلك كان شيوخه يحكمونه في أحوال الرجال، قال البخاري: “كان ابن المديني يسألني عن شيوخ خرسان فكنت أذكر له محمد بن سلام فلا يعرفه إلى أن قال لي يوما: “كل من أثنيت عليه فهو عندنا الرضا”، وقال إبراهيم بن محمد بن سلام: “كان الرتوت (الرؤساء) من أصحاب الحديث مثل سعيد بن أبي مريم وحجاج بن منهال.. (وذكر جمعا من شيوخ البخاري) يقضون لمحمد بن إسماعيل على أنفسهم في النظر والمعرفة”.
وقال الحسين بن محمد المعروف بعبيد العجل: “رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يستمعان إلى محمد بن إسماعيل أي شيء يقول يجلسون بجنبه” وما أدراك ما أبو زرعة وأبو حاتم ومثلهم كبير المتكلمين في الرجال يحيى بن معين فقد كان هو الآخر منقادا له في المعرفة.
ومن شيوخه من كان يدعوه لينتخب له من حديث نفسه ويفتخر بذلك يقول محمد بن أبي حاتم: “سمعت البخاري يقول: كان إسماعيل بن أبي أويس إذا انتخبت من كتابه، نسخ تلك الأحاديث لنفسه وقال هذه الأحاديث انتخبها محمد بن إسماعيل من حديثي”.
واعترافا بسعة حفظه يقول شيخه الحافظ محمد بن بشار بندار: “حفاظ الدنيا أربعة أبو زرعة بالري، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمان الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل البخاري”.
وقال أبو علي صالح بن محمد: “البخاري أعلم بالحديث وأبو زرعة أحفظ وأكثر حديثا، وعبد الله بن عبد الرحمان ليس من هؤلاء في شيء”؛ فإذا كان أبو زرعة يقدم البخاري ومسلم تلميذه وخريجه وعبد الله الدارمي لم يصل مرتبته فما أجل البخاري، ولهذا يقول عمرو بن علي الفلاس: “حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث”، فلا غرابة أن يرجع إليه الكبار من شيوخه ليفصل لهم في نزاعاتهم العلمية مثل الحميدي، ويحكمونه في حديثهم مثل التنيسي ومحمد بن سلام، ويرجعون إلى قوله كإسحاق بن راهويه، والداخلي في القصة التي مرَّ ذكرها وكل أولئك كانوا منبهرين بعلمه وفقهه.
لقد بلغ البخاري في العبقرية مبلغا يحير العقول ويبهر الألباب وفي قصته مع البغداديين الذين قلبوا له مئة حديث وكيف ردَّ كل متن إلى سنده مشهورة، قال الحافظ ابن حجر معلقا: “هنا يخضع للبخاري، فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان حافظا بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه مرة واحدة”.
بمثل هؤلاء النجوم المتلألئة يستضاء في زمن النجوم المظلمة التي تسوق في سوق الكساد اليوم، حيث تناسى الناس صانعي أمجادهم وصاروا لا يعرفون إلا حثالة من البشر تسلط عليهم الأضواء على أنهم هم القدوة، يا للأسف!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *