بعد إعلان الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”، قبل أمس الأحد أن بلاده: (ستنشئ فيلقا “دوليا” أجنبيا للمتطوعين من الخارج) سارعَتْ وزيرة الخارجية البريطانية “ليز تراس” في ذات اليوم إلى دعم المبادرة مؤكدة أنها تدعم ذهاب مواطنين بريطانيين بشكل فردي لمقاتلة القوات الروسية في أوكرانيا، وذلك خلال مقابلة لها مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وزادت في التأكيد أنه: (يتعين على الناس اتخاذ قرارتهم بأنفسهم).
جريدة “الصن The Sun” البريطانية من جهتها أشادت بالعملية الانتحارية التي قام بها أحد العساكر الأوكرانيين، حيث فجر نفسه لنسف جسر من أجل الحيلولة دون مرور الجيش الروسي، فاعتبرته عملا بطوليا بكل المقاييس.
فما الذي يجعل مثل هذه الأفعال بطولة ومقاومة وأمرا شريفا تدعمه الدول، ويكتسب الصفة الشرعية، وتشيد به كبريات الصحف وتعتبره من أجَلِّ الأعمال البطولية؟
وكيف يصبح التفجير والانتحار عملا مقبولا يشاد به داخل الأوساط “الديمقراطية” والحداثية؟
ولماذا لا تُقبل الأفعال والعمليات نفسها عندما يقوم بها فلسطيني مثلا أو عراقي أو سوري للدفاع عن بلاده ودينه ودولته وأبنائه؟
ويُخرّجُ عن هذا: لماذا يُسجن المغاربة وكل شباب المسلمين الذين قاتلوا في أفغانستان والعراق جيوشَ الاحتلال الأمريكي، وفي مالي جيوش فرنسا، وكذلك الذين قاتلوا الجيش الروسي نفسه في الشيشان؟
طبعا روسيا في أفغانستان أو الشيشان ضد المسلمين ليست هي روسيا في أوكرانيا، تماما مثل فرنسا في مالي حيث يريد الغرب منا أن نعتقد أنها كانت تزرع الورود في بلاد مالي بدل الألغام، وتنشر المحبة الحداثية ولو كانت مصبوغة بالدماء ومؤثثة بأشلاء الماليين المهداة لأمهاتهم في “عيد الأم” و”عيد الحب”.
قد لا نرى جدوى من أن نناقش الغرب في حروبه فقد تعرّت سوءته، وبانت للناس مفاهيمه في نشر التسامح والسلام والتعايش ومحاربة الإرهاب والتطرف والعنف، لكننا نحب أن نوجه الكلام إلى نخبتنا الفكرية والصحافية والسياسية والعلمية وعلى رأسها السادة العلماء والدعاة، الذين انخرطوا في التأصيل الشرعي والتأييد الأدبي للمفاهيم التي استعملها الغرب خلال العشرين سنة في حربه على الإرهاب، والتي تبيَّن لكل ذي عقل وعينين أن المعني بهذه الحرب هو الإسلام والمسلمون والشريعة والعقيدة والتراث والهوية الإسلامية.
لقد كتبنا وكتب غيرنا خلال العشرين سنة الماضية مرارا وتكرارا، عن مفهوم “الإرهاب”، وكيف تستعمله الدول الغربية في تفتيت الإسلام وسجن أبنائه وتفكيك مؤسساته الخيرية والدعوية، وإبطال المفاهيم الإسلامية التي توجب على المسلم الدفاع عن دينه وأمته وبلاده وقومه.
ولا يخفى أن حملة الغرب استهدفت ذروة سنام تلك المفاهيم والمتمثلة في الجهاد الذي كان خلال سنوات المقاومة المغربية للاحتلال الفرنسي والإسباني المحفزَ والمؤطر لحركات المقاومة التي تحتفي بها الدولة، وجعلت له الدولة مندوبية سامية لحفظ ذاكرة آبائنا المجاهدين الأبطال الذين غيبت سيرهم وبطولاته عن مسار تكوين الأجيال وتنشئتهم، الأمر الذي سهل مهمة الغرب في جعل كلمة الجهاد يرتعد منها المسلم لنجاحه في إعطائها مفهوم الإرهاب، فأصبح بعض العلماء والفقهاء من فرط الضغط العلماني الدولي والمحلي، يقفزون على تدريس أبواب أحكام الجهاد في المصنفات والكتب الحديثية والفقهية، بل تجرأ العلمانيون في نشوة اضطهاد العلم والعلماء والدعاة، على وصف رسائل النبي صلى الله عليه وسلم بالإرهابية، وتمت الدعوة إلى شطب مغازيه عليه الصلاة والسلام من تدريس درس السيرة.
إن مفهوم الإرهاب يقبل وصف الفداء والتضحية بالنسبة للمظلوم ومَن في دائرته، كما يقبل وصف الإرهاب من قبل الظالم الذي يقاومه المظلومون، فكل جانب يصفه لمصلحته وما يخدم قضيته سواء كانت عادلة أو ظالمة، فلا سبيل لتوحيد مفهوم الإرهاب، ومن ثَمَّ لا مجال لوحدة الحرب عليه.
فبريطانيا من أصغر الدول الأوربية مساحةً أصبحت بعد الاكتشافات الجغرافية وبعد حملات الاحتلال والتوسع توصف بالإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس فهل وصلت إلى ذلك باحترامها لحقوق الإنسان وامتثالها لدعاوى التعايش والتسامح، وإلى اليوم لا يزال التاج البريطاني يحكم كندا ويستغل كل بلدانه التي كان يحتلها، كما أن فرنسا لا زالت لها الصلاحية لتقتل في البلدان الإفريقية، لكن دائما باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان ونشر التعايش، ومحاربة التطرف والإرهاب.
أما الحقيقة فتراها في الأخبار والأرقام الاقتصادية حيث: “تهيمن فرنسا على أغلب مناجم الذهب في هذه البلدان (أي البلدان الإفريقية)، وهي بذلك تمتلك رابع احتياطي العالم من الذهب والذي يقدر بأكثر من 2400 طنا، وبما قيمته 112 مليار دولار، دون أن يوجد منجم واحد على أراضيها، بينما لا تمتلك كل المستعمرات الفرنسية السابقة، أي احتياطي من الذهب، رغم أن بعضها تحتوي على العديد منها، والتي تنتج آلاف الأطنان سنويا. وهذا فضلا عن اليورانيوم المستخدم في إنتاج الطاقة النووية، والتي تؤمن 80% من إنتاج الكهرباء في فرنسا، حيث تستحوذ عليه فرنسا من بعض تلك البلدان بأقل الأسعار، وهو الأمر الذي يجعل باريس أكثر استماتة على البقاء في أفريقيا، وإبقاء مستعمراتها السابقة تدور في فلكها، إلى أجل غير مسمى، مهما كلفها هذا الأمر”(1).
هذا فضلا عن “أن العقود الإنشائية، ومشاريع البنية التحتية، في تلك البلدان، يتم تنفيذها بواسطة شركات فرنسية، وبأغلى الأسعار، وتسيطر الشركات الفرنسية على جميع المرافق الرئيسية في عدد من هذه البلدان، كمؤسسات المياه، والكهرباء، والهاتف، والنقل، والموانئ، والبنوك الكبرى، والشيء نفسه في التجارة والبناء والزراعة. وتبلغ إجمالي منهوبات الحكومة الفرنسية من أفريقيا سنويا حوالي 500 مليار دولار”(2).
إن الوضع الاقتصادي لدول أوربا وأمريكا، يفسر اهتمامها بمحاربة الإرهاب والتطرف وما تسميه مراكزُ بحوثها الاستراتيجية “الإسلام السياسي”، فمفهومَا الإرهاب والتطرف لديها يشملان كل فاعل ديني أو سياسي من الممكن أن يكون حائلا في المستقبل بينها وبين استمرار استغلالها ونفوذها في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية من الدول الفقيرة والتي كانت من مستعمراتها التقليدية.
فالأمر نفسه يتكرر ويُستنسخ بالنسبة لأمريكا في العراق وأفغانستان ولروسيا في سوريا، بل حتى الانقلاب في السودان ومصر والأوضاع في ليبيا لها نفس الأهداف وتحمي نفس المصالح التي تحميها القوة الغاشمة في مالي، لذا نرى خطابات محاربة الإرهاب في كل دولة يستبيحها الغرب بجيوشه تعلو فوق المشهد لتحرس الدبابات والمدافع الغربية وتشتغل جنبا إلى جنب مع العسكر والاستخبارات لتنفيذ الخطط التي يضعها أرباب السياسة والاقتصاد في الدول الخمس الكبرى المهيمنة على العالم.
وما نأسف له حقيقة هو أن تستمر نُخبُ المسلمين، دون وعي منها في مجاراة دعاوى التعايش والتسامح، في الوقت الذي ظهر أن هذه الدعاوى تستعمل فقط في ضرب المسلمين وشيطنة الخطاب المسلم الحر، ونسف المفاهيم الإسلامية الأصيلة، ولا نتحدث هنا عن “النخبة” المغشوشة التي تصطف إلى جانب كل المشاريع الغربية في البلدان الإسلامية، بل نقصد النخب الصادقة إذ مِنها مَن استغفل في هذه الحرب القذرة التي دامت أكثر من عقدين على كل ما هو إسلامي، فكانت محاضراتهم وخطاباتهم ومواقفهم، تُستخدم في إعطاء الشرعية ولو بطريقة غير مباشرة لمشاريع الغرب في الحرب على الإسلام.
فمفهوم المقاومة الأوكراني الذي يدعمه الغرب اليوم هو نفسه مفهوم “الجهاد” الذي حاربه الغرب طيلة العقدين المنصرمين وبنى من خلال استغلاله لأبناء المسلمين المعتقلات مثل غوانتانامو، وضغط على الأنظمة في الدول الإسلامية حتى تُوَقع على اتفاقيات التعاون الاستخباراتي، ورعى المؤتمرات الدولية من أجل إدانة كل ما يمت إلى الجهاد بصلة سواء كان راهنا أم معاصرا أم يدرس في كل مراحل التاريخ الإسلامي، وحرك علمانيي الدول الإسلامية لتكوين جيوش من الذباب الإلكتروني والورقي لشن هجومات متتالية قصد شطب مفهوم الجهاد من مقررات التعليم ومن التراث ومن العلوم الشرعية الإسلامية وإحلال قيم التسامح الغربية والتعايش الداعر محلها. فكل التصريحات تدل أن هذا المفهوم الجهادي الذي اتخذ ذريعة للحرب على الإرهاب، هو نفسه الذي يستعمله الغرب اليوم في مقاومته للجيوش الروسية، وهو عين ما تدعمه وزيرة الخارجية البريطاني وهو نفسه الذي أشادت به جريدة “الصن” البريطانية ذائعة الصيت، فكيف بعد هذا لا نرثي لحال كل عالم أو داعية اصطف لجلد وقتل وسجن أبناء حركات التحرير في البلدان الإسلامية التي دخلتها جيوش الاحتلال الغربي؟
ثم أما بعد، فإن ما نراه اليوم في الحرب الروسية على أوكرانيا والتي لها واجهات متعددة دينية واقتصادية وإيديولوجية وعسكرية، إنما هي آخر فصول النظام الحالي الذي بدأ منذ سقوط جدار برلين واستمر بعد سقوط الاتحاد السوفياتي واضمحلال خطره الأحمر على الرأسمالية الليبرالية التوسعية، ليتفرغ الغرب بقيادة أمريكا للخطر الأخضر -أي الإسلام- الذي صاغ برنار لويس البريطاني الصهيوني الشهير الرؤية الاستراتيجية لجيوشه وحكوماته ومنهجية التعامل مع الإسلام المتصاعد، حيث تم اعتبار الإسلام الخطر الأخضر الذي يمثل التهديد الأكبر على الحضارة والمدنية الغربيتين، وأن الصراع بين الحضارة الغربية والإسلام حتمي ولن ينتهي إلا بعد القضاء على أحد الطرفين، وكانت الفكرة الأساس قد وردت في إصدار لبرنار بعنوان: “جذور الغضب الإسلامي”.
هذه الفكرة تَمَّ البناء عليها من طرف “صامويل هانتنجتون” لتخرج إلى الوجود نظرية “صراع الحضارات”حيث أكد على ضرورة استبدال الإسلام بالشيوعية أو الخطر الأخضر بالخطر الأحمر، وبعد هذا رأينا مخرجات هذه النظرية تطبق على أرض الواقع وهو ما عشناه خلال الحرب العالمية على الإرهاب/الإسلام، والتي بدأت في أفغاستان 2002، والعراق 2003، ثم توالت مراحل الحرب لتشمل سوريا وليبيا واليمن وأخذت أشكالا غير الحرب المباشرة، حيث تم الانقلاب على كل الإسلاميين الذين وصلوا إلى السلطة بعد عواصف الربيع العربي التي وجهها الغرب من خلال الأنظمة الموالية له، لتنتهي أية قوة للخطر الأخطر داخل بلاد المسلمين.
ثم تتبَّعت الميلشيات الغربية والشرقية الوجود الفعلي لأتباع “الخطر الأخضر” فرأينا الصين تبني المعتقلات للأويغور والكازاخيين والأقليات العرقية المسلمة الأخرى وتقحم فيها أكثر من مليون شخص تم احتجازهم منذ عام 2017؛ الأمر نفسه بالنسبة للوجود الإسلامي في أوربا حيث اخترع مثلا الإسلام الفرنسي ووضعت القوانين من أجل الحد من التأثير الإسلامي للمراكز الإسلامية والحيلولة دون تأطيرها للمسلمين المهاجرين، وحوصر الأئمة والوعاظ في كل أوربا وجرمت دولها وقوانينها لبس الحجاب والنقاب، وذلك تنفيذا لتوصيات المستشرق اليهودي برنارد لويس، الذي سبق أن صرّح لصحيفة “دي فيلت” الألمانية بأنّ “أوروبا ستكون جزءاً من المغرب العربي”، وليس العكس.
ولماذا يا ترى؟
لأنّ حسب رأيه: “التوجهات الحالية (أي وقت التصريح قبل أكثر من عقدين) تُظهر أنّ أوروبا ستشهد أغلبية مسلمة في نهاية القرن الواحد والعشرين على أقصي تقدير”(3)
لقد نجح برنار لويس وتلاميذته في التنظير للنظام الدولي الحالي الذي يعيش آخر أيامه، ونجح بوش الأب والابن ومَن بعدهما وحلفاؤهما في الغرب في تدمير العالم الإسلامي، لينطلق نظام دولي جديد بعد كورونا والحرب على أوكرانيا، سيعيشه المسلمون مفعولا بهم مرّة أخرى بسبب خيانات ونفاق وتواطؤ وغباء وغفلة نخبه الفكرية والسياسية والعلمية.
فتعسا لحلفاء الغرب من المسلمين في حربهم على الإرهاب/الإسلام.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب