معالم وضوابط الاجتهاد والتأويل عند الدكتورة فاطمة المرنيسي 2/2 د.عبد العزيز وصفي

تُعدّ المرنيسي واحدة من هؤلاء الذين فهموا الدين الإسلامي فهماً غربياً تغريبياً استشراقياً، أو على حدّ زعم هؤلاء: فهماً “عقلانياً تنويرياً”.. أو “فهماً تحررياً” أضف إليها -والقائمة طويلة- الدكتور هشام جعيط -الكاتب والمؤرخ التونسي الأصل الغربي الهوى، والذي يُـعدُّ واحداً من هؤلاء الذين انطلقوا في كتاباتهم، وخاصة ما دار حول السيرة النبوية الشريفة، بما يتّسِق مع المنهج الاستشراقي البغيض الذي يستهدف بالأساس التأصيل للرؤى العَلمانية التي ترى أن مستقبل الأديان يتجه إلى اللادينية؛ لأن ذلك لا يتماشى مع العلم والحداثة والحرية الفكرية.
وهي الرؤية التي تتبناها المرنيسي في كل كتاباتها عن الإسلام وقضاياه العديدة، ومنها: قضية المرأة، ولا أجد في نفسي غضاضة وأنا أشُـقُّ طريق هذا الموضوع الضخم أن أقول: بأن هذه المرأة “المفكرة” “المتحررة” من ضوابط النص وضوابط المنهج العلمي هي التي بدأت بالحجاب الشرعي فاعتبرته وسيلة لإيذاء المرأة اعتمدها المنافقون..!!؟؟ وغيرها من الأفكار الكثيرة الشاذة عن المألوف فما بالك بالدين..
وهي نفس الرؤية التي يتبناها زميلها في “التفكير التنويري الحر” جعيّط نفسه، والذي استشهدوا به كثيراً في هذا العدد من المجلة، وجعلوا كتابه “الفتنة” مصدراً موثوقاً مثل القرآن في الاستدلال على قضية بالغة الأهمية وهي وقعة صفين؛ والذي ينقل لنا بما يخالف الحقائق التاريخية أنه وقعت صراعات على الخلافة، وأن عائشة رضي الله عنها كان لها السبق في أخذ المبادرة بحسم كل المواقف لولا بعض الانقلابات والخيانات التي تواطأت ضدها.
ويورد لنا جعيط في مؤلفه سياقات وتفاصيل الصراع حول الخلافة بعد اغتيال عثمان بن عفان، ويذكر بالأهمية البالغة التي كان يكتسيها تحرك عائشة مع الصحابيين الآخرين طلحة والزبير، ضد علي بن أبي طالب فيقول: (جاءت مبادرة رد الفعل من جهة غير متوقعة، ولكنها مميزة بشكل فريد: جاءت من عائشة أرملة النبي، “أم المؤمنين” حسب الكلام الإلهي ذاته (…) رحلت عائشة إلى الحج من المدينة إلى مكة في وقت كانت الأمور قد بدأت تسوء في العاصمة (أي: المدينة)، وفضّلت البقاء في مكة بعد مقتل عثمان وانتخاب علي. وفي وقت مبكر أطلقت دعوة نشطة للتنديد بظلم المقتل) ( ).
ويضيف جعيط: أن “نفوذ عائشة” كان أساسياً في عدم مبايعة مكة لعلي. وتشكل جيش حول عائشة، واستطاع السيطرة على مدينة البصرة، ولم يتمكن الخليفة المبايع من إخماد هذا التمرد إلا بعد معركة دامية، اشتهرت بموقعة الجمل، كناية على ذلك الهودج الذي قادت من خلاله عائشة هذه المعركة..( ).
ويظهر من كلام هؤلاء ومن خلال هذا التحليل الذي يُـجانب الحقائق التاريخية: أن زعامة امرأة وطموحها لتولي الأمر، أي: القيادة الحربية والسياسية، كان مقبولاً تماماً.
والذي يمكننا قوله هنا: أن فتنة مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لم تكن مجرد ثورة عفوية، بل هو مكرٌ دبر قبلها بسنوات، فقد قام السبئية (هم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي) وبعض أصحاب المطامع الشخصية والأحقاد الدفينة بتأليب العامة على أمرائهم ومن ثمَّ على خليفتهم. فبدأوا أولاً بالحرب الإعلامية، وبثوا الإشاعات الكاذبة عن الخليفة وولاتهِ، وعمدوا إلى تزوير الكتب واختلاقها على لسان الصحابة (عائشة، علي، طلحة، الزبير).
وكانت الرسائل المزورة تبعث من مصرٍ إلى آخر حتى يقول أهل ذلك المصر: “إنا لفي عافية مما ابتلي به هؤلاء”… والذي لا يذكره جعيط: أنه بهذه الطريقة نجح ابن سبأ ومن معه بأن يخرجوا من كل مصرٍ (البصرة، الكوفة، مصر) بعض الغوغاء والهمج يقودهم أصحاب المطامع الدنيوية، فشكل هؤلاء جيشاً حاصر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في حرم رسول الله، في الشهر الحرام حتى قتلوه.
وهذا ما جعل أم المؤمنين -رضي الله عنها- ومن معها يخرجون إلى البصرة تحديداً، فلو أنهم أرادوا الانشقاق عن خلافة عليِّ -رضي الله عنه- لكان الأولى أن يخرجوا إلى الشام. إلا أن القوم بايعوا علياً وأرادوا إعانتهُ على إخماد الفتنة التي لم تكن لتنتهي باستشهاد الخليفة عثمان -رضي الله عنه-.
فالإصلاح بين الناس -خصوصاً بعد مقتل عثمان- كان غاية عائشة ومن معها، وليس الحكم، وهذا ما أجابت بهِ القعقاع عندما سألها عن سبب قدومها إلى البصرة فقالت: (أي بني إصلاح بين الناس…)( ).
أما عن دخول أم المؤمنين إلى ساحة المعركة، فيمكن أن نقول: أنه لما وصل خبر اشتداد القتال إلى أم المؤمنين خرجتْ على جملها وكلُّها أمل أن تحجِز بين الناس وتطفئ هذهِ الفتنة التي بدأت تشتعل، تعوِّل في هذا على مكانتها في قلوب الناس.
الأمر الذي لا ينسجم وطموحات ابن سبأ ورفاقهِ، والذين أرادوها ناراً لا تخمد فوسوست لهم شياطينهم بمحاولة قتل أم المؤمنين، وهو أمر كفيل بأن يحدث صدعاً لا يرأب، فأمطروا هودجها بوابل من السهام حتى أصبح الهودج كأنهُ (قنفذ مما رمي فيهِ من النبل)( )، وكان كل من أخذ بخطام الجمل يقتل، فقتل حول الجمل خلق كثير، فالقوم بين محاولٍ لقتلها ومستبسلٍ في الدفاع عنها، وهي في حيرة شديدة وحرج، (فهي لا تريد القتال ولكنَّهُ وقع رغماً عنها، وأصبحت في وسط المعمعة وصارتْ تنادي بالكف فلا مجيب)( ).
والذي يظهر لنا أن عائشة رضي الله عنها لم تكن تطمع في الرئاسة أو الحكم، وإنما كان همها أن تزول فتنة الحرب وتستمر الخلافة مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر لنا بالأدلة أن كلام جعيط وغيره مردود من عدة أوجه لا مجال للتفصيل فيها في هذا المقام، ويكفينا ما أشار إليه الصلابي وغيره في هذا الموضوع بالذات.
كما يرى جعيط -وهو رأس العلمانيين المعاصرين الناقمين- أيضاً في مواضع أخرى أن هذا المستقبل الذي يتسم باللادينية يشمل الإسلام أيضاً، غير أن ذلك سيكون بعد مدة زمنية قد تطول أو تقصر..؟! بل إنه يؤكد أن الحركات الإسلامية الموجودة في العالم الإسلامي متأسِّسَةً على عمليات سياسية وتأكيد الذات في هذا العالم، وليس على دراسة أيدولوجية أو ما إلى ذلك من هذا القبيل.
وهنا أعود لأقول: لقد خلق الله الرجل والمرأة وخلق لكل واحد منهما دوره في هذه الحياة، بحيث لا يستطيع الرجل تحمّل ما كُـلّـفت به المرأة من حمل وولادة ورعاية أطفال وتربية وكل ما يلزم البيت وهذه فطرتها.. وأعطى الرجل العمل خارج البيت بالأعمال الشاقة والمتعبة والحرب والدفاع عن الوطن والأسرة وتوفير لهم سبل العيش الكريم وحمايتهم من كل شيء.. وقَيِّم على أهل بيته.. ولذلك حُمّل كامل المسؤولية عن أهل بيته أمام القانون وأمام الله.
فإذا ما حصل مع الأبناء شيء يستدعى الأب ويحاسب عنهم أمام القاضي ويتحمل كامل المسؤولية أمام القضاء عنهم والأم قد تستدعى كشاهدة والإدلاء برأيها عما حدث إلا إذا كان لها يد فيما حصل، وهذا نادراً جدًا.
وعليه، فهناك مهام مشتركة بين الرجل والمرأة يستطيع كل منهما القيام بها على حد سواء في المجتمع وبإمكانها أن تنافس الرجل فيها، وهو العلم والتدريس والطب والتمريض ضمن الضوابط الشرعية، حيث تقوم بتعليم الفتيات وتعالج النساء وكل ما يختص بأمور النساء، وهذا أفضل إذا ما وجد طبيبة تختص بأمور النساء من الرجال.
وأعود للقول مرة أخرى فأذكر: أن هناك دولة إسلامية تقودها النساء منذ زمن.. إنها دولة بنغلاديش. والسؤال: ما هو دورها بين الدول الإسلامية والعربية اليوم؟ وما هو حال شعبها؟ ولماذا كل هذا التأخر والهوان لهذه البلد؟!
واليوم يجب أن ننظر إلى أغنى الدول في العالم وأرفعها تطورا مثل روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وغيرها من البلدان المتقدمة وإلى ما وصلت إليه. هل قادتهما امرأة يوماً ما وإلى الآن؟

والسؤال المحير للعقل: ما هو الدافع وراء إثارة مثل هذه المشكلة كل يوم على الفضائيات وحقوق المرأة وعلى صفحات مثل هذه المجلات وغيرها؟ والذين يريدون تنصيب المرأة أماكن ليست من اختصاصاتها ويحملوها أعباء هي في غنىً عنها ويلبسوها ثوباً أكبر منها. هل حقاًّ يدافعون عن حقوقها كاملة شاملة وبنية صادقة؟
ليس لها من جواب سوى إخراج نساء المسلمين من بيوتهن وإهمال ما خُلقن من أجله؛ لتعم الفوضى.. وتشيع الفاحشة كل مكان.. وتُدمّر الأسرة المسلمة المستورة المستقرة.. وإبعاد الناس عن دين الله.. وارتكاب الآثام والمعاصي رغم أنفها، باسم التحضر والتحرر والتطور المزعوم…!!
ولو بحثنا ملياً لوجدنا تاريخنا الإسلامي العريق يشهد بنصاعته وصفائه منذ قرونه الأولى أن المرأة المسلمة هي التي كانت تربي الأجيال.. وتخرّج الشباب المسلم الملتزم الراعي لحدود الله.. وهي التي كانت نواة المجتمع الصالح المتقدم الناجح والمدافع عن كل حدود الله والحامي لدينه ووطنه وأمته…
فكانت تحرص على أن تُـخرّج الشاب المسلم هو الذي يحترم والديه ويبرّهما، ويكون بخدمتهما عند اللزوم، والطبيب والمهندس والضابط والرئيس والوزير هو ابنك أيتها الأم الفاضلة الذي ربيته وأحسنت تربيته.. والذي تفخرين به في الدنيا وتجزين خير الجزاء عنه في الآخرة وهو الذي سَـيُلبِـسُكِ الـتاج يوم القيامة.. وهذا لحافظ القرآن ويقودك إلى جنات الخلد في عليين.. وهو الذي يقول لربه: يا رب إن هذه هي التي رعتني وعلمتني وجعلتني أحفظ القرآن وأحافظ على حدودك…
وأما الآخر الذي كان يفخر بك في الدنيا أنك رئيسة أو وزيرة أو مسؤولة وأهملته وتركته للمربيات والخادمات وتربى بأخلاقهن، وإذا تولى سعى في الأرض ليُـفسد فيها ويَـهلك الحرث والنّـسل، ولا تـدري عنه شيئًا.. وكان يضرب بسيف أمِّـه المسؤولة التي كان لا يستطيع أحد أن يُحاسبه بسبب مكانة أمّه.. فسيقودها لا محالة إلى الهلاك، أي: جهنم وساءت مصيرًا.. ويقول لربّه: يا ربِّ هذه هي السبب.. تركتني ولم تعلمني شيئاً.. ولم تنهني عن شيء.. فمع أي فريق تريدين أيها الأخت الفاضلة أن تكوني؟ فطريق جهنم حقاً مفروشة بالورود، وطريق الجنة مفروشة بالمتاعب والمصاعب، وبالتالي يجب أن نختار أيهما نحب.
وللموضوع بقية بحول الله تعالى.
نسأل الله أن يُلهمنا رُشدنا.. وأن يَرزقنا الصواب والإخلاص في القول والعمل.
والحمد لله رب العالمين الذي تتمُّ بنعمته الصالحات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *