من المعلوم بالضرورة أن الأسباب تقود إلى مسبباتها؛ وأن سنة الله الكونية قضت بأن العامل لا بد وأن ينال نتيجة عمله عاجلا أو آجلا؛ وأن سنن الله لا تحابي أحدا، فلا تسامح المسلم لإسلامه؛ كما أنها لا تستعصي على الانقياد للكافر لكفره. ومع وضوح هذه المعاني سواء في أمر الله الكوني أو الشرعي إلا أنه وجد من يجادل في هذه الحقائق.
سمعني أحد المتصدرين للفتوى في زمن هزلت حتى بدا من هزالها سلاها أقول: إن الغربيين يقرأون أكثر من العرب فقال محتقرا: أنت تعظم القوم.
فأحببت أن أكتب هذه الأسطر لأني رأيت مفهوم الولاء والبراء قد أساء فهمه أناس حتى طعنوا في كل من ذكر الكفار في خصلة من الخصال التي كان الأولى أن نتصف بها نحن المسلمين.
لقد استحث الله تعالى همم المسلمين إلى توحيد الصف ورأب الصدع فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) فلفت الله تعالى أنظار المسلمين إلى الموالاة الحاصلة عند الكفار ومؤازرة بعضهم لبعض. فلو علم الله تعالى أن في ذكر هذه الخصلة عند الكفار تعظيما لشأنهم لنزه كتابه الكريم عن ذلك. إن من يحسب نفسه متورعا عن أمر لم يجعل الله فيه من حرج يحسب أنه على سبيل أورع من القرآن. وصدق من قال: إن من الورع لمقتا.
وفي مثل هذا المعنى قال أبو بكر الصديق أفضل الأمة بعد نبيها: (عجبت من عجز الثقة وجلد المنافق). فهل كان الصديق معظما للمنافقين حينما وصف المنافق بخصلة الجلد؟ هذه الخصلة التي يعيب المسلم أن يفتقدها في حين اتصف بها المنافق.
إن العالم الغربي الآن بعجره وبجره يخطو خطوات كبرى في البحث العلمي؛ وهل هذه الهواتف النقالة والحواسيب ببرامجها والصناعات التي يسرت للإنسان الطير في السماء؛ والغوص في البحر؛ وقاربت بين البعيد بوسائل الاتصال والمواصلات؛ يستطيع أن ينكرها إلا مكابر ينعم بها ويجحد أن تكون قد جرت على أيدي الكفار خشية أن ينسب إلى كونه يعظمهم.
هذا الفهم السقيم والجفاء الذميم ليس من شيم المسلم الذي علمه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أنه (لا يشكر الله من لم يشكر الناس)؛ فإن زعم زاعم أن الحديث لا يتناول الكفار فيقال له لفظة (الناس) عامة للمسلم وغيره. وعلى أقل تقدير إن لم نشكر الشعوب التي جاءت على أيديهم هذه الفوائد الدنيوية فلا أقل من أن نعترف فقط. وآنئذ هل يحق لسامع يسمعنا نقول إنهم أقوى منا عدة وعددا ونحن لم نعد ما استطعنا من قوة أن يخاطبنا بجهله قائلا: إننا نعظم الكفار.
ثم يقال: وهل وصل العالم الغربي بما فيها أوربا وأمريكا واليابان وجاراتها إلى ما وصلت إليه إلا بالمعرفة والتشجيع على القراءة؟ أليس من العيب والعار على أمة أول آية نزلت من كتاب ربها هي إقرأ؛ ثم لا تجد حاملا لكتاب يقرأ فيه في جامعاتها ولا أقول في شوارعها؟
أليس من المخجل أن الصغير والكبير يحمل الكتاب في ميادينهم وحدائقهم وفي القطار والميترو ومحطاتهما وفي الطائرة ومحطاتها في حين تجد المسلم -الذي أمره دينه بالقراءة وحثه على العلم حتى جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة- لا يشتغل في الغالب إلا بالقيل والقال وسفه الكلام؛ وينظر إلى المكتبة فلا يجد بها ما يشوقه إلى المطالعة، ولا يغريه في الغالب إلا التلفاز وزخرف الملبس والمركب وشهوات المأكل والمشرب والمنكح.
أليس من المخجل أن يمتد هذا حتى إلى صفوف الملتزمين فلا يقرأون ولا يعرفون المكتبة إلا حينما يفرض عليهم واجب في المدرسة أو الجامعة؟
أليس من الغريب حقا أن يكون غالب ما يقرأ القوم من الكتب هو مواضيع من الدنيا وقصص وأخبار لا تعدو زمنها (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) ومع ذلك يقرأون ويؤلفون وينشرون المطالعة في ربوعهم؛ ويحببونها إلى صغارهم؛ ويكرهون أنفسهم عليها حتى يرغبوا فيها. ونحن مع شرف العلم الذي بين أيدينا وعظم المقصود الذي يطلب منا في علم يدعو إلى مطلوب رفيع يزكي النفس؛ ويقرب من الرب الجليل؛ ويوصل إلى الجنة؛ ويوصل العمل به إلى النجاة في الآخرة مع الأحاديث المرغبة في ذلك؛ ومع رخص الكتاب عندنا وغلائه عندهم؛ مع كل هذه الأسباب الداعية عندنا تجد الكسل هو الغالب على حال أكثر المسلمين؛ والمقاهي مكتظة بالعابثين الذين (يقتلون الوقت) والأمة تحتاجهم لترفع التسلط والمهانة التي أصابتها من جراء كسل أبنائها وجهلهم؛ وجد أعدائها واهتمامهم بالعلوم التي برعوا فيها حتى ضعفنا عن مواجهتهم بله الاستقلال عنهم سياسيا وعلميا واقتصاديا.
وما ذلك إلا أنهم شمروا في وقت كنا هائمين في سبات عميق لم يوقظنا منه إلا جيوش الغازي المستعمر؛ وحق فينا قول الشاعر:
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوم
إن قيل هذا شهدكم مر فقولوا علقم
أو قيل إن أرضكم يا قوم سوف تقسم
فتطربوا وتنغموا وتلعبوا وتنعموا
ماتت العلوم عند العرب بعد أن سطعت شمسهم في أيام كان الجهل يعم أوروبا ومن عند المسلمين استفادوا الشعلة الأولى للبحث العلمي. ولكن هل يكفينا البكاء على الأطلال وذكر الأجداد والمفاخرة بهم كشأن العظاميين المكاثرين بعظام آبائهم.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة قال: صالح بن حيان حدثني عن ابن بريدة في قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار، في بني حارثة وبني الحارث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: فيكم مثلُ فلان بن فلان، وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك، تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور. فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان؟ يشيرون إلى القبر؛ ومثل فلان؟ وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} لقد كان لكم فيما رأيتم عبرة وشغل.
لقد عرف العالم الجامعات ونظام الدراسة الحديث من الغرب وقادهم ذلك إلى أن رجعوا ليغزو بلاد المسلمين مرة أخرى ليس بجيوشهم فقط كما فعلوا قبل أن يطردهم من أرض المسلمين صلاح الدين الأيوبي؛ وإنما بعلومهم التي انبهر بنتائجها المسلمون الذين انكفأ علماؤهم على أنفسهم؛ غالب علومهم هي أقرب إلى الجهل منها إلى العلم. ابتعد غالب علمائهم عن الكتاب والسنة وسودوا أوراقا من التصوف المذموم الداعي إلى الركون والدعة وترك الحياة ليقيمها الأنذال والخوض في الحلول والاتحاد وخرافات سموها كرامات.
وأما الفقه فقد اصطبغ غالبه بأقوال المتأخرين من علماء المذاهب الإسلامية واقتصر عليهم؛ ونسيت المنابع الصافية. حتى صور ذلك مبكرا الإمام منذر بن سعيد البلوطي بقوله:
إذا قلت قال الله جدوا وأكثروا علي وقالوا أنت قرم مماحك
وأما العقائد فقد خاض المؤلفون فيها في أمور سموها علوما بنوها على المنطق الأرسطي؛ وشحنوها بكلام لم يشف عليلا ولم يرو غليلا؛ بل لم يخرج أصحابه إلا بالشك والحيرة.
ولما دخلت الجيوش النصرانية في حملتها الصليبية الأخيرة قبل قرن من الزمان وجدت الناس في عالمنا الإسلامي في سبات عميق وجهل مسيطر؛ ونبتت أجيال كرهت العلم الذي نشأ فيه أجدادها؛ فظنته هو الإسلام. ووجدت أجدادها متخلفين عن ركب التقدم لا يسايرون زمنهم؛ فحسبت أن الذي دعا هؤلاء للتخلف هو دينهم؛ وأولئك للتقدم هو دينهم. ثم وجدت سلاحا آخر رجع العالم الغربي ليحاربها به ألا هو الغزو الفكري.
واختلط عليهم الأمر فلما انبهروا بقوة سلاحهم وبأسه الشديد ظنوا أن العدو إنسان لا كالإنسان؛ لا يمكن إدراكه وأن منشأ القوة عنده هو تفوق ذاتي، ومن هنا كانت الهزيمة التي هي هزيمة نفسية علمية قبل أن تكون هزيمة عسكرية. فلم تصمد المدارس العربية أمام مدارس العدو؛ وتسلط على رقاب الناس بعد ذلك فكر قبل أن يتسلط عليهم سلاح.
إننا نقرأ مثلا لأحد الدعاة وهو يقول:
“إن المتابع للنشاط العلمي والثقافي الذي يموج في بلاد المسلمين ليدرك مدى الخلل الذي يَعتَوِر عقلية المسلمين، والهزال المعرفي الذي أصاب ذاكرتهم الثقافية. وتأخر البلاد الإسلامية في حجم الكتب المؤلفة مقارنة بالدول الأخرى أمر أثبتته الإحصاءات الرسمية بما لا يدع مجالا للشك أن المسلمين يعانون ضمورا في المعرفة والثقافة لا يقل عن ضمور إرادتهم في الصلاح والإصلاح.
إن حجم المطبوعات في دولة مثل المجر التي لا يتجاوز سكانها بضعة ملايين -في سنة واحدة- يفوق حجم المطبوعات في الدول العربية مجتمعة حيث يبلغ سكان الأخيرة أكثر من مائتي مليون نسمة.
وعدد العناوين التي يتم التأليف حولها في البلاد الأوروبية مثلا -حيث يبلغ عدد السكان قرابة الخمسمائة مليون نسمة- يتجاوز عشرات المرات ما يتم التأليف حوله في البلاد الإسلامية مجتمعة حيث يبلغ سكان الأخيرة ألفا ومائتي مليون نسمة.
…والذي لا شك فيه أن حركة التأليف المستعرة في الدول الغربية لدليل على رواج سوق المعرفة -مطلق المعرفة- وأن الناس عطاش للثقافة والعلم بالدرجة التي لا نجدها في بلادنا الإسلامية. ولا شك أن هذا النهم في المعرفة نتاج طبيعي لأساليب التربية والتعليم والتثقيف التي تمارس في دور العلم عندهم -وليس هذا هو محل البحث- ولكن الذي نريد أن نقرره أن سوق المعرفة عند أولئك الأقوام تتميز بحالة تشبع موضوعي عال”.
فهل يقول قائل إن هذا الداعية الذي هو رضا الصمدي أنه من الذين يعظمون الغرب الكافر إلا إذا كان قائل هذا الكلام من الذين خلطوا العلم بالحماقة حتى ظن الحماقة علما والجهالة فقها.
قال الشاعر:
لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها