عقلانية مركبة أم جهالة مكعبة عبد المغيث موحد

في عالم النبات؛ الأشجار التي لا جذور لها لا تعمر طويلا وإن طال فننها؛ وبسق فرعها؛ وتفتحت أزهارها، فرياح الخريف لا ترحم الدخيل؛ ولا توقر ما لا قرار له؛ ولا تغادره إلا وقد اجتثت خشبته، وهذه طبيعة الأرض تلفظ كل دخيل ولا يربو عليها إلا الأصيل ذي الجذور الضاربة في عمقها بثبات وتجذر.
إنها سنن الله الكونية وفطرته التي لا تبديل لها، وصبغته التي لا تحريف لمسار حكمتها، وهي أي هذه السنن الكونية قواعد مطردة في الخلق لا استدراك على عدلها، ولا استثناء لفضلها.
وهذه القواعد المطردة تبدو نواميسها بجلاء في فضاء التكليف خارج دائرة الرفض والإشفاق؛ حيث تم القبول والحمل الثقيل حمل أمانة الوصل العميق والشرط الوثيق، فكان ما كان من الظلم والجهالة التي بلغ مداها أن خرج من أرحام الموحدات؛ وأصلاب الموحدين جيل مستنسخ قد أعملت فيه يد الغريب عقاقير التركيب ومطارق التكعيب؛ حتى بلغ الأمر بهذا الجيل جيل القنطرة أن صارت له البدائل المارقة التي نراه اليوم مستعدا لأن يذود عنها بالنفس والمال والولد.
فيا ليت شعري متى كان للعلمانية والحداثة أصل ثابت في تربتنا؛ وفرع في سماء جغرافيتنا؛ وعقيدة متجذرة في وجدان مغربيتنا؟!
بل متى كان السفور والعري والربا والخنا والخمر واتباع سنن اليهود والنصارى واقتفاء أثرهم بإخبات وإنابة وولوج جحر الضب معهم إن هم اختاروه سكنا لهم؛ ومحرابا لمدنيتهم العفنة؟!
متى كان هذا الكل القميء أصلا فينا أصيلا، وركنا لنا ركينا، ومتى جاء التبديل وحل التغيير الذي انتكست معه الفطر، وتلوثت بفعله القيم، واستهجنت المبادئ، فصار الإسلام في بلاد الإسلام غريبا مطاردا وشريدا محاصرا؛ تنعت شعيرته بالرجعية !وتنبز شريعته بالتطرف والظلامية! ويرمي بالتهم المعلبة الجاهزة! وتلقى على عاتقه البريء اللائمة في كل ما سببه المفسدون وأوصلنا إليه المفلسون الذين عبروا البحار في يوم من أيام نقاهة المجتمع؛ ليتعلموا من الغرب صنعة الطب، ويحصلوا من العلوم ما عز نظيره في أوطاننا العزيزة التي كانت تشكو أيامها مما خلفه الاستعمار من كلوم ونكسات على واجهات الاقتصاد والسياسة والاجتماع؛ وليعودوا إلى حظيرة الوطن سالمي الطوية غانمي السوية.
ولكنها مبارك الجرب ومهالك القلب، فقد عاد الدكتور والطبيب معلول الطوية مسلوب السوية لينشر عدوى ما وجده من خصومة بين رواد النهضة والتنوير وتسلط الكنيسة التي حاربت باسم الدين كل إبداع ونتاج فكري متين، أو ما عرف حينها بالخصومة بين الدين والعقل ووضعت هذه الحرب أوزارها وانقشع غبارها بتجلي لوحة دموية أثث أركان واجهتها أفيون الشعوب، وعقل مارق استعبد القلوب وجرها إلى مهالك الإلحاد ومهارق الاستبداد المادي الحائف، وفتحت جبهة من جبهات المواجهة انتقل عبرها الإنسان الغربي من معركة الدين الذي يخاصم العقل إلى العقل الذي يصارع الدين انتقاما من الكنيسة هناك، وتشفيا في عمار سراديبها وحملة صلبانها ورواد محاكم تفتيشها.
ومع أن عقيدة الدين الذي يخاصم العقل؛ وفلسفة العقل الذي يواجه الدين؛ هي وباء غربي صرف لا صلة لديننا القيم بوزره ووزرته؛ فإن سفراء وطننا من طلبة العلم الحديث والأدب الغربي المقيت كانوا ضحية حالة الانبهار؛ والأخذ القهار؛ كنتيجة إلى ما آلت إليه الأمور بعد الانقلاب على الكنيسة. انقلابا استأصل شأفة تهتكها وأعدم صكوك غفرانها، وأتى على إقطاعية الأباطرة الذين عارضوا حركات التحرر والإصلاح، حيث آلت الأمور إلى خلق مناخ مهرول في مسعى محموم إلى كل مادي محض؛ مناخ لم يفكر أصحابه في فورة غضبهم أن يعملوا منخلهم المدني ليميزوا الخبيث الكثير ويستبقوا على الطيب القليل؛ مما كانت تقوله الكنيسة كمسألة وجود الله والإيمان باليوم الآخر وقضية البعث والفساد وتصفية العبادات والعقائد مما دسته الكنيسة من تصورات خاطئة وأفكار خطيرة.
وقد لا يهمنا هذا بقدر ما نحن ملزمون أن نعود ضرورة إلى ما يهمنا كمسلمين موحدين يدينون الله بدين محفوظ نسخ الله به سائر الملل والنحل، وعلق منشود الزحزحة عن النار وفوز الإدخال إلى الجنة ومزيد النظر إلى وجهه الكريم على اعتناق سبيله المستقيم الذي لا إقعاد فيه ولا عوج.
نعود إلى التعريج على آثار ذلك الانبهار الذي وقع للعير التي أرسلت على نفقة بيت مال الإسلام فعادت تتأبط شر الاستغراب وعقيدة أفيونية الدين ووهم حيلولته بين الناس ومظاهر المدنية التي غزت الفضاء، واقتحمت عقبة العلوم العصرية، وحولت العالم إلى مجرد قرية صغيرة.
كل هذا وغيره جعل جيلنا المنبهر يختزل نظرته في عملاقه الأبيض اختزالا لا يجادل في استقامة سيره التاريخي؛ ولا يشك في كون هذا السير ينحو منحى تصاعدي، بل صارت له عقيدة في حركة هذا العملاق، وأنه مارد يملك زمام أمره ويحسب في حركته حساب الخطوة، ويقبل دون تولي حسب منهج علمي رصين.
مع هذا الانبهار تم تبني جدوى غلبة إعمال العقل وتحرره من كل غيبي؛ فانتصرت المادة على الروح؛ وسيطرت نزوة التزين بزينة الاستغراب؛ ودارت المعركة في رحى جغرافيتنا؛ وانتقل إلينا هذا الوباء كما انتقلت أمراض السيدا، وجنون البقر، وانفلونزا الطيور؛ من عالم ما وراء البحار إلى تخومنا الشريفة مع قوة حرص وشدة يقظة.
وغني عن البيان أن المعركة لم تكن هينة ولا سهلة كما تصورها ذلك الجيل الموبوء؛ فما أنزل الله كونا من داء إلا وجعل له ترياقا ودواء، وإن لهذا الدين حراسا مرابطين على تثخوم حدوده المقدسة المحفوظة بحفظ مصادر الوحي الموعودة استشرافا بأن لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من  خلفها، وها هي سخائم العلمانية قد هدمت دورها وهدت غرانيقها بأيديها وأيدي آلية ديمقراطيتها.
وكما بدأنا أول القول نعيده؛ فالأشجار التي لا جذور لها لا تعمر طويلا وكذلك في دائرة التكليف الزبد يذهب جفاء..
وها هي العلمانية التي كانت حتى الأمس القريب ترى وجود غيرها من الحق إلى جوارها منكرا؛ وكم أغرت المفسدين من أتباعها بمشروع استئصال شأفة هذا الحق باسم العقل والحرية والحداثة.. ولكنها اليوم على عنت ومشقة نراها تطأطئ هامتها لشيء من هذا الحق وبعض من كله، آثرت الشعوب بالديمقراطية أن يسوس أمورها وأن تستدفئ بعدله في عراء الحداثة، وأن تستلهم الحماس والجلد والمصابرة من أجل بدء مشروع إعادة ترميم الأطلال وبناء الخراب الذي عمت ملامحه واجهات الاقتصاد والسياسة والاجتماع والدين، ذلك الخراب الذي كان السمة التي طبعت جغرافيتنا باسم الحرية والمساواة وتأليه العقل المستنير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *