فولتير يسخر من علمانيي المسلمين! -2- الدكتور محمد أبو نجيب

لم يتحامل فولتير على الرهبان والقساوسة والأساقفة لمجرد رغبته في فضح جماعات محتكرة للحديث عن الدين دون غيرها من الجماعات أو الفئات المعدودة من النصارى! ولا تحامل لمجرد التحامل على المؤسسات التي يديرها أولئك الذين يشكلون حماة المسيحية ورعاتها في نظر أنفسهم، وفي نظر المخدوعين من طرفهم ومن طرف الحكام. لم يقدم على ما أقدم عليه بدون أن يحمل في إحدى يديه أدوات للهدم! وفي الأخرى أدوات للبناء! فالفكر الكهنوتي الكنسي بالنسبة إليه، لا يمت إلى الإنجيل الحق بأية صلة! وعليه يجب استئصاله من جذوره كي لا يظل عائقا في سبيل تحرر الأوربيين من ظلامه ومن طغيانه ومن مقته! وباستئصاله من جذوره، يصبح اختيار أنظمة غير قائمة على أساسه متاحا يمكن الوصول به إلى أقصى الحدود. هذا الأقصى الذي يحكم اليوم –ولو بصورة مشوهة– سياستنا! واقتصادنا! وحياتنا الاجتماعية من تعليم وتربية وأخلاق، كما سوف نوضح مقصودنا من وراء هذا الطرح في حينه!

فإن صرحت الكنيسة بأن الأفكار التي جاء بها يسوع مبشرا بها على الأرض، أمانة في عنقها. وتتطلب لهذا السبب أن يقر كل فرد بسلطانها ويمتثل لوصاياها. فإن فولتير يرد بقوله: “لا شيء أكذب من هذا الزعم، فليس من علاقة أبدا بين مبادئ يسوع ومبادئ الكنيسة”! “امسكوا الإنجيل بيد، وهذه المبادئ باليد الأخرى! وانظروا هل من هذه المبادئ في الإنجيل! ثم احكموا هل المسيحيون الذين يعبدون المسيح هم على دين المسيح”؟
إنها موضوعة يفصلها فولتير متقصيا الكلمة الجارحة والسخرية الذابحة “فالمسيح لم يقل قط في الأناجيل: لقد جئت وسأموت كي أجتث المعصية الأصلية! إن أمي بتول وإن جوهري وجوهر الله واحد! ونحن أقانيم ثلاثة في الله! وأن لي طبيعتين وإرادتين، ولست إلا شخصا واحدا. لست أبا ولكني والأب شيء واحد. فأنا هو ولست هو! وسيصدر ثالث الثلاثة عن الأب فيما يعتقد اليونانيون، وعن الأب والابن فيما يعتقد اللاتينيون! كل الكون صائر إلى الهلاك الأبدي وأمي معه. ولكن أمي أم الله. آمركم أن تضعوا -بالنطق- في كسرة خبز صغيرة جسمي كله،،، شعري،،، أظافري،،، بولي،،، دمي. وأن تضعوا في ذات الوقت دمي على حدة في كأس نبيذ! اذكروا أن المسيح لم يقل ذلك كله! ليس هذا فحسب، بل إنه لم يفكر قط فيه. ولو قيض له أن يرجع بيننا فكم سيكون غضبه شديدا. وكم ستكون دهشته عظيمة! وماذا سيقول حينئذ في عادات أولئك الذين يصرحون بأنهم ممثلوه في الأرض؟
فالمسيح استنكر التفاوت في الدرجات بين الكهنة. ولكن الكنيسة تقوم على التسلسل الكهنوتي! البابا والمطارنة ورؤساء الأديرة يأمرون وينهون على هواهم. وصغار الكهنة لا يملكون سوى حق الارتجاف والطاعة. والمسيح استنكر الغنى وأشاد بالفقر. ولكن البابا والمطارنة ورؤساء الأديرة يرفلون في بحبوحة من العيش باستثناء صغار الكهنة الذين يحيون حياة بائسة ويموتون جوعا! والمسيح جعل من الخشوع والندامة أم الفضائل. ولكن البذخ والأبهة يتراءيان في عربات كبار رجال الإكليروس ومواقفهم. والمسيح امتدح صفاء القلب وأطرى سلامة الفكر. ولكن كهنته يقطعون على أنفسهم عهدا بالعفة لا يستطيعون التمسك به! ويتماحكون في تفننات لاهوتية مخيبة وغير مجدية. ولقد ابتدعوا فن حل مشاكل الذمة الذي يسمح بارتكاب كل الجرائم ضمن بعض الشروط! بل يوصي بها في بعض الحالات”!
وما نريده نحن بالتأكيد دينيا وعقلانيا منسجمين متضافرين ومتكاملين، يختلف عما يريده فولتير! وما يفكر فيه ليس هو بالضرورة وعلى وجه الدقة كل ما نفكر فيه نحن. فبيننا وبينه حواجز اجتيازها لا يتم بجرة قلم! لكننا لن نغض بصرنا عما نرغب في إفادة العلمانيين عندنا به. علهم متى تم لهم استيعابه، يراجعون أنفسهم بعد العودة إليها من باب قناعتهم التي طالما رددوها ودافعوا عنها! نقصد القول بنسبية المحصول المعرفي لدى الإنسان بعد حين من الجهد الذي يبذله في الحرث، والزرع، والحصاد، وجمع الغلال التي لن تكون على الدوام وبحكم التجربة سالمة من أية عيوب! هذا ما يخبرنا به الواقع على المستويين: النظري والتطبيقي. أو المعنوي والمادي.
وفي الآتي من الملاحظات يجد العلمانيون ما لم يكونوا قبل توغلهم في العلمانية –كما يفهمونها محرفة– قد دققوا فيه النظر:
1-توجد أربعة أناجيل لا إنجيل واحد! بل وهناك أكثر من أربعة كما سوف نرى بعد حين! وهذه الأناجيل جرى تحريفها. مما يؤكد بالملموس كيف أنها ليست هي الكتاب المنزل كوحي من الله إلى المسيح بن مريم -عليه السلام-! بينما يوجد عندنا نحن قرآن واحد انتهى إلينا عبر التواتر، لا أربعة أو خمسة منه!
يقول فولتير مؤيدا ما جاء في القرآن الكريم بخصوص الإنجيل المشوه: “فلنفحص الآن العهد الجديد: إن حظه من الاحتمال العقلي ليس بأوفر. فالأناجيل ليست متكاملة فيما بينها، بل تتناقض وتتعارض. ولا نجد فيها نفس الأنساب ولا نفس المعجزات. ولا ذات الأقوال ولا ذات الأفعال. كان لا بد من تجميل الوقائع استهواء للجماهير! فجملها بعضهم بشكل، وبعضهم بشكل آخر، وإلا ما أقنعوا أحدا”!!!
2- استهواء الجماهير واستقطابها بتغيير مضامين الإنجيل، إن بحذف، وإن بإضافات، مكر، وخداع، وغش، وتدليس واحتيال! وهذه العمليات اللاأخلاقية جميعها تندرج لدينا نحن المسلمين في مسمى “الابتداع” الذي حذرنا منه الكتاب والسنة في غير ما آية، وفي غير ما حديث.
ولم يبد فولتير عدم ارتياحه إلى محتوى الإنجيل فحسب، وإنما هاجم بنفس سخريته اللاذعة التوراة فقال: “إن قسما بأكمله من “العهد القديم” يعتبر بأنه حرر بيد موسى نفسه. فإذا صح ذلك، أصبحت قيمته الوثائقية عظيمة جدا. فهل هذا الأمر صحيح؟
فولتير يجيب بالنفي. فموسى لا يتحدث فيه عن نفسه إلا بصيغة الغائب! فإذا لم يكن ذلك دليلا كافيا، فإنه على الأقل قرينة على عدم الصحة! ثم إن المؤلف يصرح فيه بأنه يكتب “من وراء نهر الأردن”. ولكن موسى -عليه السلام- لم يعبر الأردن طيلة حياته! كما أن مواقع عدة سميت في الكتاب بأسماء لم تطلق عليها إلا بعد وفاة موسى بقرون كثيرة! وهذا ما يدعو إلى الدهشة الكبيرة! ولكن المفاجأة العظمى أن موسى يروي فيه قصة وفاته بشتى ظروفها وتفاصيلها النهائية!
ويدعونا فولتير إلى إجراء تحقيق مماثل بصدد سائر نصوص الكتاب المقدس. فكثير منها لا يصمد أمام البحث والتمحيص! مثلا ما مدى صحة سفر أيوب؟ إنه يختلف في لهجته ومجراه اختلافا تاما عن باقي النصوص المقدسة. فنرى فيه ذكرا لشخص لم يسمع باسمه قط من قبل! ولماذا تعتبر الأناجيل الأربعة التقليدية منفردة بالصحة؟ فلدينا عدة أناجيل أخرى لا تقل عن الأولى في قيمتها الظاهرية. وأي ثقة نولي روايات لم يسردها شهود عيان منزهون عن الغرض؟ بل تبدو وكأنما كتبت بعد انقضاء عدة قرون على الأحداث المروية! بناء على أقوال متوارثة أسطورية تنوقلت من فم شرقي إلى أذن يهودي”!
فهل هذا يكفي؟ أم إن العلمانيين المخدوعين عندنا يرغبون في المزيد؟ ما نريد إفادتهم به تحمله بقية الملاحظات القادرة على إيقاظ الوسنان من غفوته أو من سباته العميق!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *