الباحث في تاريخ دولة الخلافة العثمانية الإسلامية يستنتج أن سقوطها لم يكن مثل سقوط الدول كما كان عليه الأمر خلال خمسة عشر قرنا، هو عمر دول الإسلام المتعاقبة، فقد عرفت الدول الإسلامية الصراع من أجل السلطة منذ زمن بعيد، فكانت الدولة تسقِط أختها وتحل محلها في الحكم، لكن كان القاسم المشترك بينها أنها كانت كلها تدعو إلى الإسلام وتطبقه بالفعل فكان الأمراء يغلب عليهم التشبث بتعاليم الدين فسجلت لنا كتب التاريخ والتراجم سير ملوك اشتهروا بالعلم والفقه والزهد والجهاد وكان الكل يحترم حدود الله ويطبقها ويقرب إليه العلماء ويبجلهم.
إلا أن هذه السُنة قد تخلفت في آخر دول الخلافة فما هو السبب يا ترى؟
إن السبب الرئيس في سقوط الخلافة العثمانية هو الصراع الذي قاده علمانيو الاتحاد والترقي المدعومون من طرف الدول الأجنبية التي فتحت لهم أبواب سفاراتها داخل تركيا وخارجها بهدف تشجيعهم على معارضة السلطان عبد الحميد والتستر على اجتماعاتهم السرية فكانت توفر لهم الدعم الكامل حتى استطاعوا عزل السلطان بعد سلسلة من الفتن والقلاقل التي أحدثوها لإثارة الناس ضده.
وبالفعل استطاعت الدول الأجنبية المعادية للخلافة العثمانية من عزل السلطان عبد الحميد رحمه الله تعالى بأيدي العلمانيين ولم تمر إلا سنوات حتى قام الاتحاديون والكماليون تحت زعامة مصطفى كمال بإلغاء الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية وطرد الخليفة من البلاد، وتنكَّروا لكل القيم الإسلامية، فاستبدلوا القانون المدني السويسري بالقرآن الكريم، وأباحوا زواج المسلمات من غير المسلمين.
العلمانيون بالمغرب والملكية
وجدتني مضطرا إلى هذه المقدمة شبه الطويلة، قبل أن أخوض في الكلام عن العلمانيين بالمغرب وحقيقة مطالبتهم بتحديد اختصاصات الملك، وذلك لكون ما حصل للملكية العثمانية قبل إسقاطها يشبه إلى حد كبير ما يحصل في المغرب منذ عقود فالأحداث التي افتعلها العلمانيون في زمن ما بعد الاستقلال لم تكن من أجل الإصلاح ولا الديمقراطية المزعومة وإنما كانت لتنحية الملكية كمؤسسة للحكم أو لإضعافها من أجل أن يتسنى تطبيق العلمانية بحرية كاملة، فكل العلمانيون الذين وصلوا إلى الحكم في البلدان الإسلامية لم يطبقوا إصلاحا وإنما حكموا الناس بالعلمانية وبالحزب الوحيد.
إن هذا الصراع العلماني الذي دام عدة عقود والذي وصل في بعض الأحيان إلى حد تبني بعض أحزابه للمعارضة المسلحة كان من الأسباب القوية التي أضعفت المغرب بعد الاستقلال وهددت أمنه واستقراره، مما جعل موقفه في مواجهة التواجد الأجنبي ضعيفا للغاية، ومع سقوط الإيديولوجية الاشتراكية اضطر الرفاق الاشتراكيون إلى تبني ما أسموه “الإصلاح من الداخل” مع العمل على إضعاف الملكية والحد من نفوذها لكون العلمانية لا يمكن تطبيقها إلى في نظام غير ملكي أو ملكي صوري.
العلمانية والإصلاح من الداخل
إن هذا الإصلاح من الداخل هو في حقيقته تفتيت وتدمير لما يربط المواطنين بالمؤسسة الملكية، فإذا كانت العلاقة بين المغاربة وملكهم كما هو شأنها عبر التاريخ مبنية على البيعة بمفهومها الديني، وإذا كانت البيعة كواجب ديني لا يمكن عزله عن باقي تعاليم الدين وأحكامه، فإن السماح للعلمانيين بالتغلغل وسط المؤسسات العامة وتمكينهم من القوة السياسية والمالية من شأنه أن يضعف التزام الدين لدى المواطنين إلى درجة تصبح البيعة سهلة الإسقاط إذا ما نضجت الظروف كما وقع للخلافة العثمانية/الملكية، فإضعافها في النفوس يؤدي إلى اضمحلالها في الواقع ومن ثم يسهل التعديل الدستوري.
إن تغييب الدين من حياة المواطنين يمكن اعتباره من أهم الأسباب المنتجة لما تعيشه البلاد من معضلات على جميع الأصعدة فالفساد الإداري والرشوة والدعارة والجرائم ضد الأصول، وفضائح عصابات الكوكايين والمخدرات وتورط كبار المسؤولين فيها، وبيع أراضي الوقف الإسلامي، وانتشار الشذوذ، وارتفاع عدد البغايا من النساء المغربيات المرحلات في السنة من بلاد الشرق.. كل هذه المعضلات لها ارتباط مباشر بضعف التأطير الديني الذي أفرزه الصراع العلماني ضد العلماء والإسلام والذي أخذ طابع الصراع ضد الملكية من أجل السلطة والتناوب عليها.
فماذا ربح المغاربة من نضال الرفاق غير إزهاق الأرواح وانتشار الأفكار المعادية لدين البلاد وتاريخها وهويتها، ونشر فكر الإلحاد والزندقة؟
إن العلمانيين لا يهمهم إسلام ولا هوية فهم لا يعترفون بخصوصية تاريخية أو دينية، بل همهم الوحيد هو امتلاك السلطة واكتناز الأموال، وإلا ماذا فعل العلمانيون في باقي الأقطار الإسلامية؟ ماذا فعل جمال عبد الناصر لمصر؟ وماذا فعل القذافي لليبيا؟ وماذا فعل بورقيبة لتونس وبعده ابن علي؟
بل ماذا فعل العلمانيون لتركيا بعد عزلهم للسلطان عبد الحميد ألم يحكموا البلاد بالحزب الوحيد لمدة أربعة عقود من الزمن تقريبا، وقد كانوا من قبل يطالبونه بفتح مجلس المبعوثان (البرلمان) وتبني الديمقراطية.
العلمانية والدعم الأجنبي
لا يشك أحد في كون الاحتلال هو من نشر الفكر العلماني بالمغرب من خلال مدارسه ومقرراته وبعثاته، ففرنسا هي منشأ العلمانية ومُصدِّرتها، ونظرا لكون الإسلام شكل القوة المعنوية والمولدة لكل أنواع المقاومة لدى المغاربة المسلمين لكل ما يتصل بالاحتلال ومن يواليه حرص الغزاة على تربية نشء من العلمانيين يكون بمثابة النواة التي ستنقسم على نفسها مرارا متعددة حتى تشكل مجتمعا متكاملا له القدرة على التكلم بالعربية لكنه يفكر بالفرنسية، هذا المجتمع أفرز لنا أمثال صحافيي “نيشان” وغيرهما من الأبواق التي تردد دون كلل نفس النتن في صفاقة منقطعة النظير.
آخر طلعات العلمانيين كانت لأسبوعية “نيشان” نفسها في عددها 113-114 الذي تم سحبه في الشهر المنصرم والتي نشرت مقالا افتتاحيا ومواضيع تتضمن عبارات “مخالفة للأخلاق تصدم مشاعر المسلمين وتتضمن إخلالا بالاحترام الواجب للملك” كما جاء في كلام الوزير الأول.
إن التضامن الأجنبي الذي لقيه مدير الأسبوعية من طرف شخصيات أجنبية ومنظمات دولية يهمها التمكين للعلمانية بالمغرب استكمالا لما بدأه الاحتلال، كما أن الأموال الطائلة التي تقدمها الإستثمارات الأجنبية للجريدة في شكل مبالغ مالية مقابل الإشهار يؤيد حقيقة الدعم الأجنبي للعلمانيين بالمغرب، فالعدد المسحوب وحده تضمن 13 إشهارا لكبريات المقاولات الأجنبية بالمغرب كـ”ميدي تيل” و”بيبسي” وشركة القمار “LA MAROCAINE DES JEUX ET DES SPORTS” و شركة “SONY ERICSSON” وغيرها، هذا ناهيك عما يمكن أن يمر تحت الطاولة، لكن كل هذا الكرم يفسره تفاني الأسبوعية في القيام بدورها في نشر العلمانية بالمغرب بشكل لن تستطيعه كبريات المجلات الفرنسية.
منهج العلمانيين المغاربة في هدم الدين والدولة
بإلقاء نظرة تأملية على مادة هذا العدد يمكن للقارئ أن يخرج بفكرة كاملة عن منهج العلمانيين المغاربة في هدم الإسلام وتفتيت بنية المجتمع وهذا ما سنحاول بيانه في الملاحظات الوصفية التالية:
– نشر صور متعددة خليعة لنساء عاريات تماما بدعوى الحديث عن “الجنس في الثقافة الإسلامية”، اشتمل على الكثير من المغالطات والأكاذيب طعنا في الإسلام وخدمة للموقف العلماني من تصريف الشهوة.
– تشجيع الشذوذ والدعوة إليه من خلال تلميع صورة الشاذ المغربي عبد الله الطايع ونشر آرائه حول الشذوذ منها قوله: “أعتز بمثليتي”.
– تشجيع تغيير الجنس من خلال نشر صورة المتحول جنسيا “نور” والذي يعمل راقصة وعارضة أزياء والإشادة بشجاعة المتمثلة في تحديه لمجتمعه ونظرة الناس إليه.
– التهكم على الأخيار من الملتزمين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
– الاستهزاء بالسنة النبوية والتشكيك فيها لصرف الناس عنها.
– التنقص من قيمة الزواج وتشجيع العلاقات الجنسية المحرمة.
– تحريك النعرات والقوميات وذلك واضح من خلال مقال بعنوان: “أمازيغ ضد الفتوحات” ويتضمن استهزاء بالصحابة رضوان الله عنهم وكذبا على التابعين، ومغالطات تاريخية تخدم الغرض.
– تهكم صريح بخطاب الملك بشكل يزري بالمؤسسة الملكية من حيث كونها سلطة وليس بشخص الملك.
– تشجيع الحركات العلمانية المتطرفة مثل غلاة الأمازيغ “الحزب الديمقراطي الأمازيغي”.
– تتفيه عقل المسلم والاستهتار بآلام المسلمين من خلال مقال” الكرة توحد العراقيين” في الوقت الذي تتجاهل فيه الأسبوعية الاحتلال الأمريكي.
– إشهار القمار.
وأمر تتبع هذا البوق العلماني الواحد يطول أكثر من حجم المقال، ولم يبق مكان للتعليق الذي يبدو أن وضوح النقط المذكورة يُغني عنه.