أنواع المحبة عند ابن القيم -رحمه الله تعالى-*

..والله تعالى يقول: “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا” فجعل علة السكون أنها منه، ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية، لوجب أن لا يستحسن الأنقص من الصور، ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره ولا يجد محيدا لقلبه عنه، ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه، فعلمنا أنه شيء في ذات النفس، وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب وتلك تفنى بفناء سببها.

قال ومما يؤكد هذا القول أننا قد علمنا أن المحبة ضروب، فأفضلها: محبة المتحابين في الله عز وجل، إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل المذهب، وإما لفضل علم يمنحه الإنسان، ومحبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة لبر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة لطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة لبلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس.
وكل هذه الأجناس فمنقضية مع انقضاء عللها، وزائدة بزيادتها، وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها، فاترة ببعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المتمكن من النفس.
ثم أورد هذا السؤال..، قال والجواب: أن نفس الذي لا يحب من يحبه مكتنفة الجهات ببعض الأعراض الساترة والحجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية، فلم تحس بالجزء الذي كان متصلا بها قبل حلولها حيث هي، ولو تخلصت لاستويا في الاتصال والمحبة، ونفس المحب متخلصة، عالمة بمكان ما كان يشركها في المجاورة، طالبة له، قاصدة إليه، باحثة عنه، مشتهية لملاقاته، جاذبة له، لو أمكنها كالمغناطيس والحديد، وكالنار في الحجر.
وأجابت طائفة أخرى: أن الأرواح خلقت على هيئة الكرة، ثم قسمت: فأي روحين تلاقتا هناك وتجاورتا تآلفتا في هذا العالم وتحابتا، وإن تنافرتا هناك، تنافرتا هنا، وإن تألفتا من وجه وتنافرتا من وجه، كانتا كذلك ها هنا، وهذا الجواب مبني على الأصل الفاسد الذي أصّلَه هؤلاء، أن الأرواح موجودة قبل الأجساد، وأنها كانت متعارفة متجاورة هناك، تتلاقى وتتعارف، وهذا خطأ بل الصحيح الذي دل عليه الشرع والعقل، أن الأرواح مخلوقة مع الأجساد، وأن الملك الموكل بنفخ الروح في الجسد ينفخ فيه الروح إذا مضى.

*ابن قيم الجوزية “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *