الحركة السلفية الإصلاحية بالمغرب ونزول الشيخ أبي شعيب الدكالي بالرباط الشيخ محمد بن عبد السلام السائح

ألم بالمغرب في عهوده المتأخرة ما ألم بغيره من الركود الفكري، واستحكمت فيه حركة التقليد..واستخذى أهله لأبناء الزوايا وألقوا عليهم الزمام وقوى اعتقادهم في أصحاب القبور، وقل المفسر الذي يرشد الناس إلى روح الهداية القرآنية، والمحدث المتمكن من السنة الذي يقرر للناس حقيقة الإسلام، ويبرزه في صورته الصحيحة، غضا طريا، وإنما هي كتب المقلدين والمختصرات ذات الفقه الجاف التي لا تربي ملكة ولا تبدي للتشريع حكمة فأصبح العلم عبارة عن معلومات معينة تحول من دماغ إلى دماغ؛ وأغلق باب الاجتهاد وضلت مفاتيحه وحيل بين العقول وبين التفكير الحر؛ فغدا لا يعرف الإسلام إلا من وراء؛ وبعد العهد عن روح الدين وهداية سيد المرسلين، وتركت كتب السلف ذات الفقه الواضح والعلم الصحيح، وحتى إن وجد عالم صحيح العلم ضلت معارفه في هذا الخضم وتبخرت مواهبه في هذا الجو، وإن العالم الحر الصحيح العلم ليدرك بونا كبيرا وفرقا شاسعا بين تلقي الأحكام من ينابيعها الأصلية وبين أخذها من وراء ذلك.
إن تلقي الأحكام من الكتاب المنزل ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم الأولى يصحبه من التأثر في النفس والخشية في القلب والخضوع الروحي ما لا يحصل للمتلقي لها من كتب الفروع ومصنفات العلماء المقلدين، ألا ترى أن كثيرا من الأحكام نتلقاها مخلدة بحكمتها الروحية وفائدتها الاجتماعية، كقوله تعالى: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”، “قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ”، وقوله في تحريم الخمر والميسر” :إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ”. وكثيرا ما يحيط بذلك الحكم من أساليب الوعظ والتحذير ما لا يسع المكلف معه إلا العمل؛ ولا يمكنه أن يأوي إلى لب أو هوادة ويوجد ذلك بوجه خاص في الأحكام المتعلقة بداخل البيت حيث يضع النفوذ الخارجي: “وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ” الآية وكقوله: “وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ”، الآية وكقوله: “وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ” الآية فلا جرم أن العبد يتلقى تلك الأحكام من ربه وهو خاضع خاشع يسمع النداء من الملأ الأعلى ويتلقى الخطاب من طرف رب السماوات فيكون ذلك ادعى ولوج ذلك الحكم في قلبه وتغلغله مع الشرع والمبين للتنزيل، “وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى”، وكل ذلك بخلاف تلقيها من كتب الفروع ولاسيما إذا كانت على ما هو الغالب فيها خالية من التوجيه والتعليل، وبذلك لا يحصل للمتلقي من التأثير ما يحصل له من الينابيع الأولى، ولكن الناس أقبلوا على المختصرات التي يضيق فيها نطاق البيان التي تشتت على المتعلم فكره وتمتص من عمره الزمن المديد والتي لا يصل إلى المراد منها إلا وقد انكسرت حدة ذهنه ولانت غزارة عزمه بما يعالج من شبك الألفاظ وتقويم العبارات، وقد قرر ابن خلدون أن سبب نضوب ماء العلم بالمغرب هو الإقبال على المختصرات.. للعلة التي شرحنا. والبعد عن أسلوب التعليم المفيد لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
هكذا كان الحال في العلم والعقيدة إلى أن ظهر بالحجاز محمد بن عبد الوهاب ودعا لإصلاح العقيدة وحملت دعوته على ألسنة الحجاج إلى المولى سليمان فحاول نشرها بإيالته فألف بعض الرسائل الإصلاحية، وأنشأ خطبة في الموضوع أمر الخطباء بتعميمها بإيالته! وحديث هذه الحركة يعلم من تاريخ الزياني والناصري في الاستقصا وغيرهما، ولكن ذلك يقلع الداء لاستشرائه إلى أن اخترمته المنية وعادت هيف لأديانها.
ثم جاء السيد عبد الله السنوسي من المشرق بتلك الدعوة وكان أثريا سلفيا فاتصل بالمولى الحسن وحضر دروسه الحديثية بفاس والعلماء يومئذ متوافرون فصدع بوجوب إصلاح العقيدة وفتح باب الاجتهاد والأخذ بالسلفية فثار في وجهه علماء فاس، ورشقوه بسهام الانتقاد عن يد واحدة ولولا اتصاله الوثيق بالسلطان لكان له معهم شأن، وقد أدركته بطنجة وقد وهن عظمه وشابت مفارقه إلى أن كانت أيام المولى عبد الحفيظ فوفد عليه الشيخ أبو شعيب الدكالي من المشرق يتوقد نشاطا وحدة.. فقام بنشر مبادئ الإصلاح غير هياب ولا وجل، واتصل بالسلطان وبرز للنضال وثبت في الميدان، حتى استقرت مبادئه واستحكمت أركانها وضعضع أرباب الزوايا بل هدها فاستنارت بهديه العقول وسار في ضوء معارفه عدد غير قليل من الشباب.
وكان أول اتصالي به عند زيارته الأولى للرباط حيث اقترح عليه بعض أصحابنا إملاء درس حديثي، فسلمت عليه، قبل أن يقوم للإملاء، وفاوضته في العلم النبوي، وما يذكرون من إحاطته بكل معلوم، فأجابني بقوله نحن لا ندعي الإحاطة؛ وأورد حديث تأبير النخل المخرج في مسلم.. ثم قام للإملاء فأورد سنده لصحيح البخاري وأجاد القول في حديث النية وحديث الحارث بن هشام في صفة الوحي بلهجة شرقية وكلام متناسق وحسن بيان وأناة في الإلقاء، وبعد بضعة أيام زرت شيخنا القاضي أبا حامد البطاوري فدخل عليه أحد العدول لأداء شهادة ولما أتم مهمته قبل يد القاضي وقال له: جواب عن سؤال مقدم
أما الخيام فإنها كخيامكم وأرى نساء الحي غير نسائها
وكان هذا العدل لبقا راوية للشعر ينتحل الطريقة التيجانية، فضحك القاضي من قوله، ولما خرج قال لي أتدري ما قال؟ قلت لا. قال: إن الشيخ أبا شعيب نزل في هذه الزيارة عند بعض الأصحاب من المنتحلين لطريقته وضروري أن يحضر هذا العدل لضيافته وأن يكون له معه حوار. وقد حاول إخباري بما عنده، ولكن حضوري منعه من الكلام فأجمل القول، ثم قال له القاضي هؤلاء التجانيون ليس معهم تسليم، هذا تعبيره.
ثم إن الشيخ استمر قائما على نشر الحديث ومحاربة البدع بما يلقيه من الدروس الحديثية في فاس ومراكش لما استقضى به إلى أن بويع المولى يوسف وتقرر أن يكون في الرباط كرسي الدولة فحضر الشيخ في ركابه وعينه وزير العدلية، وثوى في الرباط حتى قضى نحبه، وأملى فيه من الدروس الممتعة في الحديث وغيره ما تشد إليه الرحال…
ماهية علم الشيخ وأسلوبه في التدريس
هذا الشيخ لم يكن مهتما بالاستدعاءات والاستجازات متبجحا بكثرة أسماء الشيوخ والاطلاع على الفهارس والأثبات، وإنما كانت همته الدراية… كان أولا يتقن العربية اتقانا ويحفظ كثيرا من الشواهد وبعض القصائد العربية ويجيد قراءة السبع، أما حفظ السنة فهو ذلك الفحل الذي لا يجدع أنفه يملي على الحديث الواحد الكثير الطيب مما له به ارتباط.. ويجمع أطرافه المتفرقة ثم يأخذ في استنباط الأحكام الفقهية منه ويعادل بينها وبين مختصر خليل الذي كان يحفظه في صباه ويحكي الخلاف العالي وكثيرا ما كان يقوم بدور مناظرة مفروضة بين المالكية وغيرهم يحتج فيها لكل فريق وتنتهي غالبا بانتصار المالكية، وإذا مر بحديث يشهد لمبادئه الإصلاحية تدفق كالسيل، وإذا مر بحديث لم يأخذ به المالكية أظهر امتعاضه من ذلك، يكره الجمود وكثرة التكاليف الفرعية المتكلفة الاستنباط، لا يتقيد بما كتب الناس على الحديث. كما هي حال من يتعاطى الحديث ممن عاصرناه، بل يملي إملاء محدث متمكن حر يجمع بين أطراف السنة ويرشد إلى الغاية منها، وأمامه خزانة حفظه التي يتناول منها ما شاء إلى ذوق سليم واستعداد فطري قوي..
وكان الشيخ لا يهتم بمناقضات الشروح ولا بمناقشات الحواشي، ولا يرى بذلك قيمة، وأرى أنه لو قضى شطرا من حياته في حل رموز تلك المختصرات وما عليها من كتابة متشعبة (الأمر الذي يراه علماؤنا مقياس العلم والذكاء) لو كان حالته كذلك لضعفت ملكته وتضاءلت أشعة فكره الوهاج، هذا وإن الشيخ وإن خلَّف نشئا خلفه في الدعوة الإصلاحية فلم يخلف من يعتني بالحديث اعتناءه إلا قليلا، على أن علماء قطرنا لا يعتنون بالحديث الاعتناء الكافي، ولا أرى فيهم متخصصا إلا النادر، وقد أمليت بالقرويين من الدروس الحديثية وما يرتبط بها من فقه وأصول وخلاف عال وأسبابه مع التدريب على التطبيق بكل ما في الوسع، الأمر الذي يكفي لمن أراد أن يتخرج في الفن..ومنذ سنين وأنا في لجنة امتحان العالمية بالقرويين وقل أن أجد متخرجا يعتني بالحديث اعتناء يثلج له الصدر، ولا أرى الرغبة إلا في فقه المعاملات بنتائجه المادية ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد اتصل صدى حركة الإصلاح التي كان يقوم بها الشيخ بالقصر فصدرت بها ظهائر شريفة تؤيد تلك الحركة منها ظهير في منع ما يقوم به بعض أرباب الزوايا مما يعد قذى في عين الدين وبهقا في غرة محاسنه، ومنها ظهير في منع الإرشاد لمن لم يكن من أهله، مع قرار وزيري في منع تجول هؤلاء الطرقيين إلا برخص لما تفاقم من خطبهم واستطار من شرهم.
دعوة الحق العدد 2 السنة 12 رمضان 1388/ديسمبر 1969.
اختصره: أحمد السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *