وأصرخُ والآهاتُ يقتُلها الأسى!! ذة.لطيفة أسير

حين التحقتُ بسلك التدريس، كان يسكن بخاطري تقديس عظيم لهذه المهنة، وكان المعلم في نظري كتلك الجوهرة الثمينة التي تنظر إليها بانبهار واندهاش، وتزدادُ شرفا وفخرا كلما ازددتَ قربا منها، وملأتَ عينيك من بهاء صورتها، وجمال صنعتها، وما أنعش يقيني، موقف حدث لي حين ذهبت لملحقة إدارية بالعاصمة الرباط، من أجل إتمام إجراءات التعيين، وقتها سألني المشرف على القسم سؤالا، فأجبت بصوت خافت ومرتبك، فقال لي معاتبًا ومؤنبًا: أستاذة.. ارفعي صوتك، فصوتك يجب أن يكون الأعلى في هذا البلد، لا صوت ينبغي أن يعلو فوق صوت المعلم، ولو كان صوت وزير التربية الوطنية!! صدّقتُ حينها أنّ المعلم فعلا شخصٌ مُهاب وذو قيمة في بلدي، وشعرت بالفخر أنني صرت من أسرة التعليم.

لكن بعد انخراطي في العمل، تبدّدت تلك الأحلام الوردية، وبدأت أشعر بأن ذاك الموظف الخلوق لم يكن إلا استثناء، وأن إحساسي بقدسية الأستاذ لم يكن إلا وهما..

الأستاذ.. الأستاذ.. الأستاذ..

أردّد -اليوم- هذه الكلمة الشريفة السّامقة وأنا أشعر بالحسرة والمرارة على ما آلت إليه أوضاع هذا الكائن الضعيف في مجتمعنا. مرارة يتجرعها كلّ ذي لبّ وهو يبصر الأساتذة يُسحقون سحقا عجيبا من طرف القيمين على شؤونهم.

مؤلم أن تجد الأستاذ اليوم لا يعدو أن يكون رقما مسجلا بملفات الوزارة، تتلاعب به كيف شاءت وشاء لها الهوى، بيدق من البيادق يتم تحريكه عن بعد دون النظر لأحواله وظروفه واحتياجاته.

والأدهى والأمرّ أن يُحمّل الأستاذ وحده مسؤولية تدهور التعليم، ويتحمّل وحده أعباء تنزيل القرارات الجائرة، وحين يثور ويتحدث يُعاقب ولا يعبأ المجتمع بالنضال من أجل الدفاع عنه.

الأستاذ اليوم أعزل في حرب أعلنتها وزارته بشكل سافر عليه وعلى فلذات أكباده، حربٌ تكاد تسحق الجميع -متعاقدين ورسميين- ما لم يلتف الجميع من أجل وضع حدّ حاسم لها.

شاهدت صباح اليوم صور القمع الذي جُوبِه بها الأساتذة المتعاقدون بالرباط، كان كل سوط ينزل على شرفاء المهنة يذكرني بتلك السياط  -التي تشبه ”أذناب البقر” التي تحدث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم-، سياط كانت تهوي بهمجية على تلك الأجساد الطيبة المباركة التي اختارت السير في ركب الرسالة النبوية، وآلت على نفسها الانخراط في سلك التربية والتعليم، تشعر برغبة جامحة في الصراخ في وجه كل عُتلٍّ زنيم، يعتريك الضيق وأنتَ تلمح تلك الأيادي القذرة تُدنس تلك الوزرات البيضاء الكاشفة لنبل أهلها.

مشاهد يقشعر لها بدن كل مغربي حرّ، وكل مدرّس يعِي متاعب هذه المهمة العظيمة التي ينبغي أن يُحمل أهلها فوق الأكتاف، لا أن يُداسوا بالمداس وتُمارس عليهم شتّى صنوف القهر المادي والمعنوي . من حقّ الأساتذة ”المتعاقدين” أن يتظاهروا ويعبروا عن رفضهم التام لكل قرار فيه حيف، ومن واجب كل مدرس أن ينخرط للدفاع عنهم لأنهم مستقبل الأمة، وما يُسكت عنه اليوم ليس من حقنا المطالبة به غدًا.

إلى متى سيظل الأستاذ تلك المطيّة التي يعتلي صهوتها أراذل لا بادي الرأي؟ إلى متى سيبقى صراخنا مكتوما وحواراتنا يتردد صداها بين أنفسنا؟ كيف للأستاذ أن يربّي أجيالا صانعة للقرار إذا كان هو لا يمتلك هذا الحق؟ كيف له أن يربّي التلاميذ على الديمقراطية والعدالة إذا كان هو يتجرّع مرارة الظلم والاستبداد؟ كيف سيغرس المُثل العليا وينمّي قيم المواطنة إذا كان أول من ينتهكها.. وطنه؟ كيف تطلب منه الانخراط في قطار التنمية وأنت تجرده من أبسط حقوقه.. من حقه في الاستقرار المادي والنفسي، وحقه في التعبير عن رفضه لأي قرار ظالم، وحقه في الدفاع عن كرامته، وحقه في صناعة القرار الذي يُشعره بآدميته؟

هلاكُ الأمم يبدأ بِعَنْترية السلطة ضد المستضعفين، وجُبْنها وخَوَرُها ضد الأقوياء ممن لهم سنَدٌ من السلطة أو أيادٍ كريمة تظلل عليهم، وهذا ما أنْبأنا به الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم حين قال: «إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» [رواه البخاري].. ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال: “إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، بالعدل تستصلح الرجال وتستغرز الأموال“.

فالعدل العدل مع أساتذتنا المتعاقدين..

وتحية لكل متعاقد/ة صامد/ة ومناضل/ة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *