عندما تصبح حقوق الإنسان سلاحا لإخضاع المسلمين إبراهيم الطالب

في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وبينما كان المداد الذي كتبت به مبادئ الثورة الفرنسية لم يجف بعد، إذ دخل الطاغية المحتل الفرنسي نابليون بونابرت المياه الإقليمية المصرية ليرسو ببواخره الحربية المحملة بالأطنان من البارود والعشرات من المدافع ومئات من الجنود والقساوسة، ليبشر المصريين بالمدنية الأوربية، وينتشلهم من براثن الرجعية ، ويحدث الدولة الغارقة بزعمه في بحار التخلف، فاحتل مدن مصر وقتل عددا من علماء الأزهر، وكان -كما أخبر المؤرخ الجبرتي الذي عاصر الحملة النابليونية- لا يفطر إلا بعد شنق أحد رجالات الأزهر، وغيرهم من المقاومين المجاهدين الذين رفضوا الاستسلام لنابليون أمثال محمد كريم حاكم الإسكندرية الذي أرسله الفرنسيون إلى القاهرة بعد فترة من الحبس في أبي قير، وأركبوه حماراً يحيط به موكب من العسكر مع دقات الطبول، ومشوا به حتى ميدان الرميلة، وأعدم بالرصاص ثم قاموا بالتمثيل به عن طريق قطع رأسه وتعليقه، ونادى منادي يقول: “هذا جزاء كل من يخالف الفرنسيين”.

وفي 27/9/1911م أرسلت إيطاليا إنذارًا إلى حكومة الباب العالي، بالآستانة، إلى السلطان العثماني جاء فيه: “نظرًا لإهمالكم شؤون القطر الليبي؛ فإن الدولة الإيطالية تريد أن تفتح أبواب هذه البلاد للمدنية الغربية.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإننا نريد المحافظة على مصالح الإيطاليين في (ليبيا) وإنقاذهم من الخطر المحيق بأرواحهم بسبب التحريض العام عليهم بدافع من التعصب الديني، الذي يظهره الموظفون الأتراك وضباطهم نحوهم. كما أن الأسلحة التي أرسلتها دار الخلافة والتعزيزات العسكرية التي قامت بها تزيد في قلقنا”.اهـ
وكذلك احتلت فرنسا المغرب من أجل تمدينه، وإصلاح الحكم والإدارة فيه.
واحتلت أمريكا في القرن الواحد والعشرين أفغانستان والعراق من أجل تحرير شعبيهما من حكومة طالبان الرجعية ونظام صدام الدكتاتوري وإحلال المدنية الغربية الديمقراطية على أرضيهما.
وكل محتل للبلدان الإسلامية تذرع بتمدين الشعوب الإسلامية وإحلال الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، فلماذا لا يسمح لنا بالتساؤل عن جدوى الالتزام بها، مادمنا نقتل من أجلها في حالة الحرب، ونهدد بالعقوبات بسببها في حالة السلم.
صحيح أن من يملك القوة يجبر الضعيف على فعل ما يكرهه وربما ما يضره، لكن المشكلة أن ضعف الأمة ليس نابعا من مقومات هويتها وعدم قدرتها على مسايرة العصر، أو من قلة موارد القوة المادية لديها، أو في تخلف شعوبها، بل هو قابع في رجال نخبتها المزورة، وأقصد بالنخبة المزورة تلك النخبة من الساسة و”المثقفين” الذين لا يعبرون عن قناعات شعوبهم ولا يعملون وفق ما تقتضيه مقومات هوية تلك الشعوب، ومن تم لا تجد تلك النخبة امتدادا لها في نفوس الناس الذين تدعي أنها تعمل لصالحهم.
لقد أصبح من الواضح أن حقوق الإنسان قد صارت إيديولوجية يعمل الغرب من خلال نشر ثقافتها على عولمة الفكر الغربي المبني على الفلسفات المادية الإلحادية التي لا مكان للدين فيها ولا تعترف بالخالق سبحانه، ولا تستنير بالوحي في وضح تصوراتها حول الإنسان والحياة والكون، مما يجعلها في الغالب مصادمة للدين الإسلامي الذي أوجب على أتباعه الخضوع لأحكامه وشريعته.
ألا يعتبر هؤلاء الحدود الشرعية –القصاص- أحكاما وحشية، ألا يعتبر هؤلاء أحكام الإرث تمييزا ضد المرأة؟
ولنا أن نستمر في التساؤل:
ما هي الأسباب الحقيقية الكامنة وراء إصرار الدول المهيمنة على الأمم المتحدة على أن تخضع الدول الإسلامية إلى نظمها الثقافية والإجتماعية؟
هل يريد الغرب بالفعل أن يساعد هذه الدول على إحراز التقدم والازدهار؟
إن من السذاجة أن تؤخذ تصريحات القادة الغربيين بشأن مساعدة الدول الإسلامية على النمو والتقدم على أنها صادقة، فقد أثبت التاريخ أن كل الحروب التي خاضها الغرب ضد المسلمين كانت من أجل إضعافهم واستغلال ثرواتهم فلماذا يطلب منا أن نتجاهل الطريقة والمنهجية التي يفكر بها من يسير دواليب الحكم في الغرب وهم أنفسهم المهيمنون على الأمم المتحدة ومنظماتها؟
إن جحافل المستشرقين والعسكريين الذين خاضوا حروب الاحتلال وضعوا استراتيجيات وخططا لإسقاط الخلافة الإسلامية وتشتيت شمل المسلمين قصد تأبيد ضعفهم وتخلفهم، وكانت أقوى أسلحتهم هي إشاعة الأفكار الغربية التي تضعف ارتباط المسلم بالقرآن والسنة المنظمين لكل مناحي حياة الإنسان، والذين شكلا مصدر القوة للمسلمين ومكنتهم من التكتل والوحدة ويسرت لهم إنشاء دولة قادت العالم لقرون عديدة.
إن تلك الجحافل من المستشرقين والعسكريين والسياسيين الامبرياليين التوسعيين هي من وضع الأسس التي تمشي وفقها الأمم المتحدة ومنظماتها إلى الآن
فالدول التي كانت مهيمنة في الحربين العالميتين هي من تملك حق الفيتو وتملك أسلحة الدمار الشامل، أما المسلمون فلا زالت دولهم تابعة للمحتل بل زادت درجات التبعية وتنوعت بعد الانبطاح السياسي والثقافي بفعل الهيمنة العلمانية والذي عجل بتفكك القيم التي كانت على مرِّ التاريخ مصدر الممانعة والمقاومة.
ثم لنلقي نظرة على المجتمعات الغربية التي أخضعت شعوبها لثقافة حقوق الإنسان وانتهكت كل حقوق الله تعالى في تسيير خلقه، فرغم رفع كل أشكال التمييز في الدول الأوربية والأمريكية ما زال العنف ضد النساء مستشريا، بل منذ اعتماد النظم الحقوقية الدولية في تلك البلدان زادت وضعية المرأة سوء، فنسبة الاغتصاب والقتل في صفوف النساء الغربيات ارتفعت بمعدلات مهولة، وكذلك حالات التحرش الجنسي، مما يثبت أن المساواة بالمفهوم الغربي لم تحقق التوازن الاجتماعي ولا النفسي لا للرجل ولا للمرأة؟

لقد أصبحت حقوق الإنسان هي الحقيقة المطلقة الوحيدة التي أوجب الغرب المنتصر علينا أن نتخلى عن كل حقائقنا المطلقة لصالحها، فالحدود صارت نسبية رغم أنها صريحة في القرآن كلام الله، والغيب أصبح خرافة يخترعها الحاكم لإخضاع رعيته، والتفريق بين السياسي والديني أمسى من ركائز الدولة الحديثة، وهيمنت السياسي على الديني وإخضاعه له بات من مستلزمات هيكلة الحقل الديني كي تتساوق مؤسساته مع مؤسسات المجتمع السياسية.
إن إخضاع ما تبقى من مقومات الهوية ومعالم الخصوصية في البلدان الإسلامية للفكر الغربي ستكون له عواقب وخيمة على المستوى الاجتماعي حيث سنسمع في السنوات القريبة من يطالب بإلغاء نظام الإرث جملة وليس حالات التعصيب فقط، وسنسمع من يطالب في المغرب بالمُلك للإناث، ومن يطالب بحقوق السحاقيات والشواذ وتقنين زواجهم، ما دامت كلها مطالب معترفا بها دوليا بل هي تطور حتمي لمجتمع تبنى ما جرى عليه العمل في كل البلدان الغربية.
ولنتدبر قول الله عز وجل: “ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ، هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ، أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ”.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *