يقف المرء مشدوها أمام ما خطه الأديب الألمعي، مصطفى لطفي المنفلوطي، في أدبه الراقي من بديع الإشارة، وصدق العبارة، وبساطة المعنى، ونبل المرمى، وسمو المغزى، كتابة تعالج الواقع، بلا تفلسف أو تعقيد، ولا إسفاف أو تمييع. وجدتني وأنا أطالع نظراته وعبراته، أحس كأنه يكتب عن واقعنا، يرمقه بنظرات الحسرة، ويذرف عليه من عينيه العبرة تلو العبرة. فاسترقت من بديع ما كتب هذه النظرات.
النظرة الثالة
أنفلونزا المواسم وجنون المهرجانات
يستغرب المرء هذا الهوس والجنون الذي أصاب بعض القائمين على شأن هذه البلاد، الذين أصبح همهم وشغلهم الشاغل، إقامة المهرجان تلو المهرجان، والاحتفال بعد الاحتفال، فأقاموا في كل يوم مهرجانا، وفي كل مدينة بل قرية موسما، بل في كل شارع وكل ركن وزاوية، وهو مخطط علماني، يلقى من الدعم والتشجيع والتأييد الداخلي والخارجي، ما يوحي بأن دين وأخلاق هذا الشعب لن تقوم لهما قائمة بعد هذه الحرب المسعورة، ولو صرف عشر معشار ما يصرف على هذه الحرب على فكر آخر أو إيديولوجية أخرى لانمحت واندثرت وأصبحت أثرا بعد عين.
لكنه دين الله وقد تكفل بحفظه، وما علينا إلا فضح المخططات وكشف المؤامرات التي تحاك بالليل والنهار، ليحمل المشعل أبناءنا وحفدتنا، كما تسلمناه من آبائنا وأجدادنا. إن بلدا عظيما كالمغرب لا يستحق أن تنحدر به هذه الفئة الغريبة المتغربة، في هذه الهوة السحيقة، وتجره إلى هذا المستنقع الآسن، لا تهمها إلا مصالحها ونفخ أرصدتها ورضى أسيادها، أيستحق شعب جائع مغبون عزيز أبي صابر، أن يمطر بهذا الوابل من الأفلام الساقطة والمهرجانات الداعرة والمواسم الخرافية، إنه قصف لا يقل ضراوة وهمجية عن قصف النابال والقنابل النووية والعنقودية، إن الحقد الذي تكنه هذه الفئة المتغربة على قيم هذا الشعب، فاق حقد الصهاينة على الفلسطينيين. إنها حرب رفعت شعار الفن والترويح والترفيه، ظاهرها العري والمجون والميوعة والانحلال والتفاهة والسفاهة والانحطاط، وفحش القول وبذيء الكلام، وباطنها الحقد والمكر لهذا الدين، والسعي لضرب قيم هذا الشعب، وتهيئ الأرضية لإحكام طغمة العلمانيين طوقها حول رقبتنا، متوسلة بكل الدناءات التي تسمى فنونا، وبكل أنواع العاهات والمرضى والحمقى الذين يسمون فنانين.
كتب المنفلوطي منذ قرن من الزمن عن هذه المهرجانات موضوعا بعنوان ” الملاعب الهزلية” عن فرقة لشخص يدعى الريحاني، وقد تزامن ظهورها مع الحرب العالمية الأولى كتب قائلا:
“نزلت بالأمة المصرية نازلة تلك المقاذر العامة التي يسمونها الملاعب الهزلية، وما هي في شيء من الهزل، ولا الجد، ولا علاقة لها بالتمثيل ولا التصوير، ولا بأي فن من الفنون الأدبية، فأقبل عليها الناس إقبالا عظيما….(إلى أن يقول)..
أأعظكم في أمر أنتم تعلمون من نتائجه وآثاره وسوء عقباه مثل ما أعلم، أو أدعوكم إلى اجتناب سيئة، لا أحسب أن بين كباركم وصغاركم من يجهل أنها السيئة العظمى التي لم ترزأ الأمة بمثلها في حاضر تاريخها أو ماضيه، أو أقول لكم إن هذه الأماكن التي تطؤها أقدامكم، إنما هي مقابر الشرف ومدافن الفضائل والأخلاق، ومصارع الأعراض والحرمات..
إنني لا أرى في هذه المجامع التي تفتتنون بها، وتتهافتون عليها، حسنة تَغتفِر سيئة، أو جمالا يفي بقبح، أو خيرا يعزي عن شر. فتمثيلها سخيف بارد، لا يستطيع من أوتي حظا قليلا من سلامة الذوق أن يصبر نفسه ساعة واحدة على النظر إليه، وملحها ثقيلة مستبشعة، لو نطق بها ناطق في مجتمع، من المجتمعات الخاصة، ثم قلب نظره في وجوه الجالسين حوله، لرأى في ابتسامات السخرية المترقرقة في شفاههم، ما يذيبه حياء وخجلا. وأناشيدها سوقية مبتذلة في موضوعها، وصورة أدائها.. فماذا بقي فيها من وجوه الحسن بعد ذلك؟
..بل بقي ما هو شر من هذا جميعه، وهو تمثيل الشهوات البدنية والنفسية بجميع أنواعها وضروبها على مشهد من رجالنا ونسائنا وأطفالنا، وتصويرها بتلك الصورة القبيحة التي ترخى على مثلها الستور، وتقام من حولها الدعائم والجدران.
فلو أن غريبا وفد إلى هذا البلد، وهو لا يعلم من شأنه شيئا، فذهب إلى مكان من تلك الأمكنة، ليرى في مرآته صورة الأمة ممثلة في مسارحها الوطنية لقضى عليها للنظرة الأولى بأنها أحط الأمم وأدناها. ذلك إلى ما يسمعه فيها من ألفاظ السب والشتم، وجمل الفحش والهجو التي يطرق أذنه مثلها في موقف من مواقف حياته، أو مشهد من مشاهدها، إلا إذا قدر له أن يتغلغل بنفسه يوما من الأيام في تلك الأحياء العامة الساقطة… فيسمعها هناك في مشاجرات القرادين، ومهاترات الشحاذين..
أتدرون أيها الأصدقاء، من هم هؤلاء الذين يسمون أنفسهم ممثلين، ويسمون ما يهذون به في مسارحهم روايات، والذين يدعونكم، معشر المتعلمين الراقين، إلى حضور مجامعهم باسم الآداب والفنون؟
لو أن جماعة من الزامرين، وآخرين من الطبالين، وآخرين من القرادين، وجماعة غيرهم من الرمالين، والمداحين، والصفاعين، والبهلوانية، والحواة والرقاة، وبقية السائلين المستجدين الذين يمرون بأبواب المنازل كل يوم ضاجين صارخين، فلا نلقي لهم بالا ولا نعيرهم أذنا، اتفقوا فيما بينهم على أن يكونوا جماعة واحدة، يدا واحدة في مكان واحد لكانوا هم بعينهم..
فهل تسمح لكم نفوسكم أيها الأصدقاء، وأنتم عيون الأمة اليقظة، وعقولها المفكرة، أن تنخدعوا بألاعيب هؤلاء الخبثاء المحتالين، فترفعوهم بأيديكم إلى هذه المرتبة العالية التي لم يخلقوا لها، ولا يمتون لها بسبب من أسباب العلم أو الذكاء أو الشرف أو الخلق”.
ثم ختم رحمه الله مقالته بنصيحة نحن في أحوج الناس إليها، بعد تكالب العلمانيين علينا، قال: “نحن في حالة نحتاج أن يعلم الناس عنا في كل مكان أننا أمة أخلاق وآداب، وأن في نفوس أفرادنا من الصفات والمزايا ما يرفعنا إلى مصاف الأمم العظيمة، ومقياس عظمة الأمم عند العالم هو بصفاتها ومزاياها، قبل أن يكون بأي شيء آخر..
إنني لا أدعوكم إلى الامتناع عن الإلمام بهذه المقاذر العامة من أجل أنفسكم فقط، بل من أجل إخوتكم وأخواتكم اليوم، ومن أجل أبنائكم وأحفادكم غدا، ومن أجل مستقبل الأمة المصرية كلها…
اهدموا هذه الأماكن هدما بالإعراض عنها واحتقارها، ثم قفوا بعد ذلك على أطلالها البالية هاتفين صائحين صياح الظافر المنتصر قائلين ها قد نجت الأمة من خطر عظيم”. فهل أنتم منتهون.