سلسلة التوحيد عند الصوفية: فتح العلي بتوضيح معنى الولي ‎ المتصوفة وعقيدتهم في الجنة والنار -2- أبو محمد عادل خزرون التطواني

إن مجرد ميل القلب إلى الجنة يعتبره المتصوفة ذنباً يعاقبون عليه.
وفي سبيل هذه العقيدة حول المتصوفة معاني الآيات والأحاديث إلى ما يريدون إثباته من ذلك.
وهذه بعض أدلتهم التي أخذوها من الآيات والأحاديث:
1- قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم﴾ بهذا المقطع من الآية فقط يستدل الكلاباذي على عقيدة القوم، ويقول: “ليعبدوه بالرق لا بالطمع”. ويقطع الآية عن نهايتها التي ترد فيها قوله، وهي قوله تعالى: ﴿بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ فشراء الله لأنفس المؤمنين وأموالهم إنما كان بعوض ومقابل ومكافأة وهو الجنة، وعمل المؤمنين كان سبباً للوصول إلى هذه الجنة، وإن كان غير مكافئ لها، ولكن لا يمنع هذا المؤمن أن يطمع في فضل الله ورحمته، ودخول الجنة، وأن يسعى إلى ذلك، بل هذا هو التعبد الصحيح.
2- قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ .
يقول الكلاباذي: “أي الخالية عن ذكر الله، لتعلموا أنه بفضله نلتم لا بأعمالكم” .
فسَّر الخالية هنا بمعنى الخالية عن ذكر الله، أي لأنكم لم تذكروا الله في بعض الأيام استحق هذا مني أن أدخلكم الجنة، لتعلموا أنما دخلتموها بفضلي لا بعلمكم. وهذا تفسير خاطئ معكوس لمعنى الآية، فالله عز وجل يقول للمؤمنين يوم القيامة: كلوا واشربوا هنيئاً بسبب ما أسلفتموه في الأيام الخالية أي السابقة التي خلت. والذي أسلفوه هو العمل الصالح.
3- استدل الكلاباذي أيضاً على هذه العقيدة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (الصوم لي، وأنا أجزي به) ، قال: “قال أحد الكبراء: أي أنا الجزاء به” .
وأحد الكبراء هذا هو الحلاج. وهذا تحريف لمعنى الحديث، ليوافق هذا المعتقد الباطل.
بل كثيرا ما يستهزؤون بها ويسخرون بذكرها، فنقلوا عن رابعة العدوية البصرية أنها كانت تنشد:
يعبدون الله خوفاً من لظى — فلظى قد عبدوا لا ربنا
ولدار الخلد صلوا، لا له — شبه قوم يعبدون الوثنا
وذكرها العطار فقال: “جاء إليها رجال من أهل الله فسألت أحدهم: لماذا تعبد الله؟
فقال: خوفاً من عقابه والجحيم التي برزت للغاوين.
فسألت الآخر فقال: طمعاً في جنته التي أعدت للمتقين.
فقالت:”أما أنا فما عبدته خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته فأكون كالأجير السوء بل عبدته حباً له وشوقاً إليه” .
وليست رابعة العدوية وحدها من ينقلون عنها استغناءها عن الجنة واستحقار ذكرها، وعدم اهتمامها بالخوف والرجاء، والرهبة والرغبة، بل هذا هو موقفهم ومشربهم، فينقلون ذلك عن كبارهم أيضا.
يقول الهجويري:
“إن أبا يزيد البسطامي الذي قال فيه الجنيد البغدادي” أبو يزيد منا بمنزلة جبريل من الملائكة” .
فكان يقول: “الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة، وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم” .
عن البسطامي أيضا قال: “الجنة هي الحجاب الأكبر لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة، وكل من سكن إلى سواه فهو محجوب” .
ونقل ابن العريف عنه أيضا أنه كان يسخر بالثواب ولم يكن يبالي بالعقاب، وكان يقول مخاطبا للرب تعالى:
أريدك لا أريدك للثواب — ولكني أريدك للعقاب .
وكان يستهزئ بالجنة بقوله:
“لله عباد لو بدت لهم الجنة بزينتها لضجوا منها كما يضج أهل النار من النار” .
كما كان يستهزئ بالنار، فينقل عنه أنه كان يقول:
“وددت أن قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على باب جهنم. فسأله رجل: ولم ذاك يا أبا يزيد؟ فقال: إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد” .
ومثل ذلك نقلوا عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يستهزئ بنعيم الجنة بدعائه: “اللهم إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة” .
والشبلي الذي قال عنه الجنيد: “لكل قوم تاج، وتاج هذا القوم الشبلي” .
ينقلون عن تاج قومهم هذا أنه كان يدعو: “اللهم أخبأ الجنة والنار خبايا غيبك حتى تعبد بغير واسطة” .
ومن استهزائهم بالجحيم ونيرانها أنه قال في مجلسه:
” إن لله عبادا لو بزقوا على جهنم لأطفوها” .
وكذلك كان يقول: “لو خطر على بالي أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنت مشركاً” .
ومن استخفافه بوعيد أهل النار أنه سمع قارئا يقرأ هذه الآية: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ فقال الشبلي: “ليتني كنت واحداً منهم” .
وأما معروف الكرخي فيروون عنه “أنه عبد الله لا خوفا من ناره، ولا شوقا إلى جنته فلذلك رؤى في النوم في حظيرة القدس جالسا في سرادق العرش شاخصا ببصره ينظر إلى الله” .
ونقل ذلك عبد الغني الرافعي أيضا فقال: قال بعض إخوان معروف الكرخي رضي الله عنه: “أخبرني يا أبا محفوظ، أي شيء هاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق؟ فسكت، فقال: “ذكر الموت؟ فقال: أي شيء الموت؟ فقال: ذكر القبر والبرزخ؟ فقال: وأي شيء القبر، فقال: خوف النار ورجاء الجنة؟ فقال: وأي شيء هذا، ثم قال: إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا” .
وكتب الجامي في نفحاته أن محمد بن سعيد الزنجي سئل عن الرذيل من هو؟ قال:”الذي يعبد الله خوفا ورجاء، قالوا: وأنت لم تعبد؟ قال: خدمة وطاعة” .
وقال الأموي: “الخواص من الأولياء زهدوا في الحور العين وغيرهم من النعيم للنظر إلى وجه الله تعالى، ثم أعرضوا عن الحور العين والقصور والاتكاء على الفرش والأرائك واللحوم والفواكه إلى مشاهدة كمال إله الكل” .
ومن أهم ما روي في ذلك ما رواه ابن الملقن في طبقاته عن أبي الحسن بن الموفق المتوفي 265هـ أنه قال: “اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك فعذبني بها. وإن كنت تعلم أني أعبدك حبا مني لجنتك وشوقا إليها فأحرمنيها” .
ورووا عن شاب كان قلبه على قلب إبراهيم الخليل كما يقولون، فينقلون عنه أنه كان يقول: “يا سماء ويا أرض اشهدا على أنه ما خطر على قلبي ذكر الجنة والنار قط مثل إبراهيم الخليل” .
هذا وقد ذكر السهلجي حكاية عن أبي موسى تدل على استخفاف الصوفية بالجنة ونيلهم من شأنها وعظمتها فيقول:
“يؤتي يوم القيامة برجل من طريق النار على حالة أحسن ما يكون، فيراد أن يزداد الذي يؤتى من طريق النار ألماً ووجعاً فيقال له: ترى ذاك الذي يحمل إلى الجنة بتلك الزينة؟ وهو فلان. فيقول نعم، كنت سمعت اسمه في دار الدنيا. قال: فيبلغ الله صوته ذلك الولي فيقف مكانه فيقال له: لم لا تذهب؟ فيقول: لا أبرح من مكاني حتى يكون معي من سمع باسمي. قال: فينادي: وهبناه منك، خذ بيده واذهب به إلى الجنة. وكان الشيخ أبو عبد الله يقول إذا حكى هذه الحكاية: هذا لمن سمع الاسم، فكيف لمن رأى وصحب” .
وأكثر من ذلك أنهم نقلوا عنه أنه قال: “ما النار؟ لاستندن إليها غداً، وأقول: اجعلني لأهلها فداء أو لأبلعنها. ما الجنة؟ لعبة صبيان” .
ويزعم محمد عثمان عبده البرهاني في كتابه تبرئة الذمة في نصح الأمة أن الشيخ إبراهيم الدسوقي تكلم مع الله في عالم الأرواح وطلب منه أن يزيد له في جسمه حتى يملاً النار وحده ولا يدخلها أحد وذلك حيث يقول: “وطلب سيدي إبراهيم الدسوقي في عالم الأرواح أن يزداد له في جسمه فزيد ثم طلب أن يزداد أكثر فأكثر فزيد وهكذا حتى سأله الجبار جل وعلا عما يريد من كبر جسمه؟ فقال: يا رب أنت قلت وقولك الحق في كتابك العزيز ﴿لأملان جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ وأنا أريد أن أملأ جهنم لوحدي حتى لا يصلاها أحد، فقال جل وعلا أتتكرم على كريم يا إبراهيم إنا شفعناك في سبعين ألف مع كل فرد منهم سبعون ألفاً وكل هذا غير من أخذ طريقتك وغير من دخل مقامك وزارك” .
فكما ترى أخي القارئ شطحاتهم لا تنتهي، وهذه أقوالهم واعتقاداتهم فيض من غيض مما نقل عنهم وتواتر، ومهما حاول المرء أن يعتذر عن أصحابها بأي وجه من الوجوه وإن ادعوا بأن باطن أقوالهم مخالف لظاهرها فقاعدة الإسلام جلية وركينة أننا نحكم بالظاهر كما دلت جملة الأحكام الشرعية.
ولا يخفى ما يحويه كلامهم من السخرية والاستهزاء والانتقاص من الدين والسخف والاستخفاف بعقول الأمة، إضافة إلى الكذب والتدليس والافتراء الذي لم يقل به حتى إبليس، نسأل الله العفو العافية.
للكلام بقية.. إن شاء الله تعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *