لا نزال بخير ما دام فينا من ينكر عبد المغيث موحد

روي عن الإمام أحمد أنه قيل له: “إن عبد الوهاب الوراق ينكر كذا وكذا”، فقال عليه رحمة الله: “لا نزال بخير ما دام فينا من ينكر”، وصنعة الإنكار هي فرع عن ذلك الأصل العظيم، الذي عُلق على امتيازه وجود مقام الخيرية الملازم للأمة استقرارا وثبوتا، متى هي تمسكت بكتاب ربها وسنة نبيها؟ ومتى هي أقامت من داخلها وعلى الثخوم من حولها فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
وهي صنعة الغيورين على حمى الدين، ووظيفة الذائدين عن حياض حرمات الرب العظيم، وشغل الحاملين للهمِّ الشريف، همِّ التمكين للدعوة الحق، واقتحام العقبة الحائلة بين هذا الحق والراغبين من الخلق في اعتناق محجته البيضاء، الناشدين النهل من معين العقيدة الصافية والملة النقية، التي لا اعوجاج في سبيلها، ولا إقعاد قد نالها من وعد إبليس وجنوده من الجنة والناس.
تلك الملة التي بقيت على الطبع الأول طبع الرعيل القرآني، جيل الصحابة من المهاجرين والأنصار، خريجي دار الأرقم بن الأرقم، وأسياد المدينة النبوية الشريفة، ذوي الفضل المطلق، فضل الصحبة، وفضل اللقي والبيعة الأولى، بيعة السمع والطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والذين سجل لهم التاريخ في باب إقامة الحجة على سائر الخلف أروع الأمثلة للحضارة بمفهومها الصحيح، والمدنية التي عاش أهلها في كرٍّ دائم على كل منكر رأوه أو بلغهم من عدل عنه خبر.
فكيف بنا نحن اليوم وقد انتقل المنكر بتعاظم شنيع من دركة المرئي إلى درجة الرائي، ومن موقف الفرّ إلى رهان الكرّ، ومن كواليس الخاطر الفاجر إلى فضاء المفضوح السافر؟
فكم من حرمة قد انتهكت؟ وكم من فضيلة قد قصفت؟ وكم من خصيصة حياء قد دنست، ولا حياة لمن تنادي؟ اللهم من قلوب مكلومة، وألسن محتسبة، وأفواه محوقلة، ومقل لها مع العبرات ألف تأبين وتأبين، مع كل تأبين رؤية شهادة لهذه الجراءة المارقة التي تساق اليوم إلى الواجهة باسم الإصلاح والتشافي من آثار الماضوية الظلماء، والهرولة في مسعى تحقيق الحريات العامة، ذلك السحر الكفيل بتحقيق الرفاه والتقدم الحداثي المنشود، الرفاه والتقدم الذي انتشرت آثاره الماجنة واستشرت مخلفاته الحالقة انتشار النار في الهشيم، فكان من رواد الحداثة قوم انسلخوا من آيات الرفعة، وأخلدوا إلى الدون، وتدثروا بما نفثه ملاحدة الغرب في روعهم المريض، حتى صاروا مصنعين بقطع غيار التغريب، وأصبحوا مدججين بمعاول التخريب، حاملين ألوية الإفساد للنسل والحرث.
وهم اليوم في مرحلة متقدمة من السيرورة التاريخية للمواجهة، قد بدت دخائل أنفسهم، وساد سلق ألسنتهم الحداد، فما من ركن بلغوه أو حلوا به إلا وتسمع لحلولهم ركزا ماكرا، فهذه تنادي بإسكات آذان الدجى المزعج للضيوف الأجانب، وأخرى تصدع بأماني السوية في الميراث والقوامة والذكورية، وأخرى قد فار تنور نحرها فضاقت حنقا ببعض الآيات والأذكار المكتوبة على الواجهات الزجاجية الأمامية للسيارات، وآخر يطعن في الإعجاز القرآني فيتفضل بشرح سورة الكوثر بلغته الخشبية المدخونة، وثالث ينصح بترجمة القرآن إلى لهجته الأمازيغية حتى يتسنى بزعمه للمغاربة الوقوف على أكذوبة العرب، ورابع اختار أن يقارع النقاب، وأن يعادي الحجاب..، وتتعدد الأطياف المناوئة، وتتسع بؤر التضاد، وتتناسل مجانيق القصف، ويظل المشترك العام لهذا التضاد والمناوأة والقصف، هو إسلامنا البريء وقرآننا العظيم وسنة نبينا الكريم.
وإننا لا نملك في مقابل هذا الكر الحائف إلا أن نسجل اطمئنانا لعدم جدوى السؤال الاستشرافي عن نهاية هذه المواجهة النكدة والقصف المتصل، سند عدوانه من غربة العودة إلى حيث غربة البداية، ذلك أننا مع هذا الاطمئنان نعد هذا النوع من الأسئلة سؤالا عن المعلوم، والسؤال عن المعلوم ضرب من ضروب المذموم، وفي مقابل هذا الإمساك نؤمن قطعا أن بداية أي فحش هي نفسها مدخل تلقائي في نهايته، نهاية فشل وهزيمة وحتف، وهذا ولا شك مصير أي مشروع يريد به أصحابه إطفاء نور الله وتحقيق الميل العظيم، الذي ينشده أرباب الشهوات وربابنة الرذيلة، مصداقا لقوله تعالى: “وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً” (النساء 27).
غير أن هذا الإيمان بحتمية الغلبة والاطمئنان برجحان انتصار الحق على الباطل، لا ينهض لنا حجة نبرر بها تخاذلنا وإخلادنا إلى الدنيا، وصمتنا أمام هذه الصلصلة المعربدة التي على مرأى ومسمع من المفتي والمقلد والمتبوع والتابع، جعلت جغرافية الإسلام مهادا للمقبوحات والرذائل بشتى أصنافها، وعليه فإن كنا قد أمسكنا سلفا عن السؤال عن المعلوم، فإننا هذه المرة لا نملك معذرة ولا مسوغا يحول بيننا وبين مساءلة كبرائنا من العلماء، واستفتاء سرادقهم العلمية -المتكفلة بالحفاظ على الأمن الروحي للمغاربة المسلمين- عن سبب صمتهم الرهيب، وفرهم أمام هذا الكر الفاجر الذي لم يستهدف قراءة الحزب الراتب، بل تعداه ليكون المقصوف هو القرآن العظيم من فاتحته إلى دعاء ختمه، مساءلة لا نروم من خلالها جلد أحد أو النيل من مظفور علمي لأحد، إنما غايتنا والله حسيبنا تذكير الذين هم اليوم في الواجهة الدينية الرسمية بأننا قد نحقق المعذرة كمقلدين بمجرد تمعر الوجه، واحتساب اللسان أمام أكبر منكر، وهو ما لا يتسنى بإجماع ولو مع أصغر منكر لمن هم أعلم منا، لأن لإنكار المنكر مقامات تزيد حدتها وتتغير آلة إنكارها بحسب زيادة الباءة الدنيوية والدينية أو نقصانها، وعليه فلا خير فينا إن لم نقلها للذكرى، ولا خير فيهم إن لم يقبلوها للامتثال المنشئ للتنفيذ الفوري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *