الوعي المقاصدي “حكمة بالذات.. فتنة بالعرض” (1/3) الأستاذ عادل بن المحجوب رفوش

الباطنية الجدد:

لم يكن للظاهرية عيب عند العلماء سوى أنهم ضيقوا واسعا، ونهجوا في الشريعة خلاف الجماهير، رغم أن عامة أهل الظاهر أهل علم وذكاء وسعة اطلاع فما بالكم معاشر القراء بقوم ميعوا واسعا وأغلقوا ضيقا، ولم يجعلوا للأسباب ارتباطا ولم يجدوا في قوة الحرف تخصيصا ولا تحديدا، حتى آلت الشريعة في أيديهم إلى باطنية جدد لا نكاد نضبط لهم منهجا أقرب من كونهم نقيض الظاهرية بلا حدود:
لقد تستروا بالإمام الشاطبي كثيرا، وبجلوه حتى بلغوا به درجة الازدراء بالأئمة السابقين..
فالشافعي هو تلميذ الإمام مالك ولب لبه الاجتهادي “إنما جنى على العقل العربي بتقديس” نظام الخطاب ومحورة “البيان اللفظي” مكرسا الإيديولوجية العربية في انحياز للقرشية تحديدا.. ولولا مجيء الشاطبي “مؤسس نظام العقل” كما يقول الجابري وغيره حيث أطلق تحولا إبيستمولوجيا معرفيا في “علم المقاصد” لاستمرت الكارثة بهذا الكيان العربي المسلم..
إنهم شطبوا كل أعلام الأمة إلا مَن دخل دار أبي إسحاق الشاطبي ..
وقالوا إما أن تكونوا “مقاصديين” ..أو “اقتصاديين”.. في إشارة واضحة إلى “الباطنية” و”المادة” إلى علم الأنفاق وعلم الأرزاق ودون مراعاة لحقوق الخلاق ولا لحدود سنة سيد مكارم الأخلاق صلى الله عليه وسلم.

المقاصد بين الروعة واللوعة:
نعم إنها دعوة المقاصد بروعتها أو “لوعتها برغوتها” وأحيانا كثيرة إنما هي “لعبة المقاصد بصولتها وجولتها”.
لا يجادل صاحب علم في كون “علم المقاصد” أصيل المأخذ في شريعتنا الإسلامية وأنه “روح الشريعة وجوهرها ومغزى الدين ووجدانه وضمير الإسلام ومنهاجه” وتكفي الإشارة إلى أم القواعد الكلية “الأمور بمقاصدها” وإلى مباحث “التعليل والمناسبة” عند الأصوليين وإلى مكانة حديث “النية” عند أصناف العلماء، أصل ثابت وجبل معرفي استقر في مناكب علوم الإسلام أن تميد بكم…
وهذه هي روعة المقاصد.
أما رغوتها فحينما يصير هذا العلم وحيد نفسه لا يتدخل في مجلس شوراه أحد من معارف الإسلام الأخرى، ويستقل أطال الله عمره بكل رأي وحكم..
وكيف يستقل ولم تستقل “نصوص الوحي الصريحة”؟
أرأيت لو أعملنا من القرآن “عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم” وتركنا “كنتم خير أمة أخرجت للناس”، أفرأيت لو أخذنا من جوامع كلم النبوة “لا تغضب” دون قوله: “لله أغير من سعد”.
بل أرأيت لو قلنا “المبتدأ مرفوع”، لغضبت علينا “أم النواسخ” فضلا عن بعض أبنائها.
وأما “لعبة المقاصد” فحينما يتدرع به كتبة ليسوا بحفظة، ونقلة ليسوا بأمنة، أقلام تكتب عن الإسلام وقضاياه، ولم تنشأ -وربما شابت- إلا على معارف الغرب وفلسفته.. إنهم وجدوا علم المقاصد رحبا بقدر النفس المفرغ من بالونات أفئدتهم الهواء، ومرِنا بقدر دهان التملص الذي دهنوا به، ومزدهر الأفانين والأغصان بقدر ألوان حرابين عقولهم ولبوسها..
بجلوه وبجلوا الشاطبي وتداول العلمانيون وإخوانهم قليل كلمات حق لتشييد أباطيل، وعمقوا لعبة المقاصد إلى حد تبجيل القرآن “وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون” بأنه “كتاب هداية وبشرى” و”خطاب تثقيف تربوي”.
مدح وقدح .. وذم بما يشبه المدح ويغري ببراءة قصد البليغ؟ ليؤكدوا في لعبتهم المقاصدية وجوب إقصاء القرآن المربي من “الحياة والتشريع، ومن تقنين الدولة والتدبير، ومن حاضر الأمة وتقرير المصير.. وليبقى لكم أيها المسلمون ذلك تاريخ قرآن وحقبه المجيدة تغنوا بماضيكم كما شئتم وفي ثنايا ذلك لا يتورعون عن الاستدلال بفيلسوف هالك في الغابرين والتنظير للأمة به؟
وبالغوا في التمويه المكشوف حتى احتجوا بإمام العدل وراهب الشيطان عمر بن الخطاب ليتأكد كل مستريب بأنهم سلفيون ونهج السلف الصالح يتبعون..
حنانيكم.. يا أبطال لعبة المقاصد إن اللعب ليس مَرا.. ولا مر في تاريخ الألعاب لعبة بدون قوانين حتى المصارعة الحرة ولها حدود..
كيف نرقى يا معشر العقلاء بالوعي المقاصدي إلى درجة الحكمة الذاتية التي يحتلها بين علوم الشريعة..؟
وعن أي المقاصد نتحدث؟
مقاصد مَن في هذا العالم الفسيح؟
وما الهدف من اعتبارها؟
وكيف نستخلصها حتى نعتبرها؟
ومن هم المستخلصون لها حتى يعملوا اعتبارها؟
وهل هي متعددة كباقي الكليات الشرعية والعقلية؟
وإذا تعددت أليس واردا تعارضها؟
فكيف الترجيح بين متزاحماتها؟
وإذا وجب الترجيح فهذا قطع عقلي بتفاضلها المطلق أو النسبي في أقل الأحوال؟
المقاصد مقاصد الله:
إن العلماء المتكلمين في المقاصد حتى قبل مجيء الشاطبي بمئات السنين لم يعلنوا المقاصد شعارا أجوف يحال في رعايته على من هب ودب، بل أكدوا أن المقاصد “مقاصد الله” الذي “يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير” “الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى”.
“الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل” “الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان” “والله يقضي بالحق والذي يدعون من دونه لا يقضون بشيء” “أليس الله بكاف عبده” “فتعالى الله الملك الحق”
الذي “يريد ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا” فالمقاصد بادئ الرأي مرادات الله تعالى من كلمات الصدق والعدل في وحيه الجليل الذي اؤتمن عليه أهل الذكر المستنبطين.
إنها المقاصد التي تجري على حد قوله تعالى: “فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين” وقوله تعالى: “تريدون عرض الحياة الدنيا والله يريد الآخرة” وقوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله كره لكم قيل وقال”، فرأس المقاصد أن نسأل في كل أمر فردي أو دولي هل “الله رضي أم كره” وليس أن نقول بلسان حالنا: “إن المقاصد ستجعله يرضى ما كره أو يكره ما رضي”؟!!
غير آبهين بالإكراهات المتحملة (المحتملة) على حد قوله تعالى: “وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله”، وقوله “إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما” مع اليقين التام بأن في الأمر والنهي والتخيير حظا للمكلف وحفظا لمصالحه، أما الله فهو غني عن الحظوظ منزه عن الأغراض كما قال الشاطبي 3/186 موافقات.
فالمقاصد مقاصد الله بدءا.. وليست مقاصد أناس يتخيلون ما ليس واقعا، ويحكمون عقولا هي إلى الهوى وإلقاء المعاذير أقرب منها إلى العزيمة والهدى.. وإن كان بعض مثقفيهم ذا جلد في البحث والتنقيب.. ولكن المشارب العكرة جعلت مناحيه شتى “لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد”.
وكون المكلف مطالبا بتنحية نفسه حتى يرى مراد الله منه، معنًى نوَّع الشاطبي العبارة فيه كثيرا ومن ذلك قوله: “المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا”.
ويقول: “العزيمة أصل والرخصة استثناء ولهذا فالعزيمة مقصودة للشارع قصدا أصليا أما الرخصة فمقصودة قصدا تبعيا”.
ويقول: “من سلك إلى مصلحة غير طريقها المشروع فهو ساع ضد تلك المصلحة”.
قلت: ومن لطيف ما يستدل به على رعاية هذا الأصل “أدب الاستخارة” وكيف استحب الشارع صلاتها التي تجعل العبد يتغيا مقاصد الله حتى في مباحات الأمور التي لا يطرأ في مقدمتها ثواب ولا عقاب وهذا في الآداب المباحة فما بالكم بالثوابت والعقائد؟
يتبع ..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *