الاستمداد التربوي من قصص القرآن الكريم امحمد بن ادريس الخوجة

ألا ترى أن نبي الله نوح عليه السلام، نادى ابنه بنداء تكاد الجبال تلين له وتخشع؟ مع العلم أن ابنه كان على الكفر “يا بني اركب معنا”. فما أعذب كلمة “يا بني”، لكن حينما ينزح رب الأسرة صوب التحضر المشين البليد، مع تركه للنهل من القصص القرآني المفيد، تراه يهوي على ابنه شاتما، أو سابا، أو محتقرا بألفاظ بذيئة مائعة، تجعل الابن لا يزيد إلا نفورا وشرودا، فيصير ساكنا في العناد قابعا، وقد يكون الفعل الذي طولب الابن به، أمرا تافه أو محرم، كمن يرسل ابنه لجلب علبة سجائر، والشيء بالشيء يذكر، ما أكثر أولئك الآباء الذين يمنعون أبناءهم من التدخين لكنهم يدخنون أمامهم، ويطالبونهم بالعفاف، وإذا ما رأى الأب امرأة بحضرة ابنه رأيته يترنح، وكأنه يصعد في السماء، تكاد عيناه تنفلتان من جحرهما، فما أحوج رب الأسرة إلى التشرب بمعاني القصص القرآنية الواردة في شأن علاقة الأب بابنه، ليتزود بزاد ينفعه وينفع فلذة كبده في الدنيا والآخرة.
فهذا إبراهيم عليه السلام حينما رأى الرؤيا بذبح ابنه إسماعيل، وهو أفظع ما يتصور على الدهن، أب يريد ذبح ابنه، ومع ذلك يناديه “يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك”، نداء لين مشوب بأدب جم “يا بني”، ليهدئ من روعه فيستعد لذلك، ويعلم إسماعيل أن أباه صادقا في رؤياه، لأنه ما عهد عليه إلا الصدق وحاشا لله أن يكون كاذبا، فيجيبه بأدب رائع “يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ منَ الصَّابِرِينَ”.
فانظر رحمني الله وإياك إلى نتيجة الصدق واللين مع الأبناء ماذا يولد؟ “واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيئا” صديقا بصيغة المبالغة، وليس صادقا فقط، وتحكي الأخبار أن إسماعيل كان شابا في مقتبل العمر، وفي ذلك فائدة للآباء مع أبنائهم اليافعين المراهقين، الذين يكونون في حالة تغير نفسية وفسيولوجية… وفي ذلك أيضا، إشارة إلى كل أب عندما يكلف ابنه بمهمة صعبة أن يتقرب ويتودد إليه، لا أن يرسل الأوامر وكأنه منذر جيش عرمرم، وأما يعقوب عليه السلام فخاف من كيد إخوة يوسف فقال له “يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا”.
وذاك لقمان الذي يقال أنه كان نبيا والراجح أنه كان رجلا صالحا أتاه الله الحكمة، وها هو ذا يلاطف ابنه أيضا بالصورة القرآنية المعهودة مع نوح وإبراهيم عليهما السلام، إذ أول ما يقول لقمان لابنه “يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم”.
ولاشك أن ابن لقمان كان صغير السن أيضا، لأن هذه النصيحة هي أول ما يبدأ بها الأنبياء وهي الدعوة، إلى توحيد الحق سبحانه، ومادام لقمان بدأ بها فيبدو عقلا أنها كانت النصيحة الأولى التي تلقاها ابن لقمان، من جهة أخرى وما يؤكد هذا القول، أن لقمان قال لابنه في نصيحة قادمة “يا بني أقم الصلاة” والتوحيد يكون قبل الصلاة كما هو معلوم، ولقمان قال لابنه “أقم الصلاة” ولم يقل له “صل” لأن إقامة الصلاة تحتاج إلى الضبط والإتقان والتأمل والتدبر مع الإتيان بأركانها وسننها ومستحباتها..
– فوائد إقامة الصلاة بالنسبة للطفل والمراهق:
ــ ربط الصلة بين الخالق والمخلوق وهذا يدعو الولد الصغير واليافع إلى طرح أسئلة كثيرة، من قبيل من هو الله؟ لماذا نعبده؟ هل هو في السماء؟ لماذا لا نراه؟
والأجوبة على مثل هذه الأسئلة تحتاج عدة بطبيعة، إلا أنها تفتح باب المناقشة والحوار بين الوالد وابنه ذاك النقاش الجدي الذي ينمي التساؤلات التي تجعل من الولد إنسانا له كامل الحرية في البحث عن الحقائق والأسرار إلا أن غالب الآباء يتهربون من الإجابة على مثل هذه التساؤلات فيبقى الولد حائرا شارد الدهن، فاقد الحقيقة، وقد يعتذر أحدهم بأن الخوض في مثل هذه الأمور لا يجوز لأنها من باب الإساءة إلى المقدسات أو الوقوع في المحظور.
ــ ترويض العقل على التذكر وصقله، إن تكرار قراءة السور في الصلوات مثلا، تجعل الولد يتذكر باستمرار السور المصلى بها، وكلما أراد الصلاة ربط العلاقة بين السورة التي قرأها في الظهر مثلا، والأخرى التي قرأ بها في صلاة العشاء فيطرح أسئلة من قبيل، لما ذا نصلي بالفاتحة في كل صلاة؟
لماذا نصلي في الظهر سرا وفي العشاء جهرا؟
ومع ذلك لا ينبغي تجاهل أسئلة الطفل وإقصاؤها، لأن ذلك قد يحمل الولد على التفكير الذي مفاده أنه لا جدوى من الصلاة.
ــ التعود على النظافة: الولد المقبل على الحياة يكون أحوج إلى النظافة من البالغ، وفي تعليمه الوضوء استعداد لكل صلاة، وتعويد على التعامل مع الماء الذي يزيل الأوساخ والأدران، لكنه قد يطرح أسئلة حينما يرى جدته تتيمم بالتراب والحجر مثلا، ليجيبه الأب الفطن، إنها طهارة ترابية تحل محل الماء عند العجز والخوف، فيعلم الولد حينها رحمة الخالق بالخلق فيزيد تعلقه به.
ــ ضبط المواعيد: إن لكل صلاة وقت مخصص لها وبالتالي فإن الولد قد يلحظ ذلك وعلى الوالد أن يرشده إلى أن في ذلك فوائد منها: ضبط مواعيدنا سواء التي لها علاقة بالصلاة أو التي لها علاقة بالناس ومن بينهم، إعداد الواجبات المدرسية، فإنجاز التمارين مثلا لا ينبغي أن يؤخر إلى وقت قد يكون مقررا لإنجاز تمارين أخرى.
ــ التأدب والثقة بالنفس: الولد عندما ينبه أنه يخاطب ربه في الصلاة يثق في نفسه أكثر وتصبح لديه شخصية قوية لأنه بمخاطبته لرب العالمين مع اعتقاده أنه رب المخلوقات كلها يكتسب آدابا ومبادئ تجعله يقبل على مخاطبة جميع أنواع البشر ومن بينهم مدرسه وزملاءه… لأنهم في الأخير هم من طينته لا غير.
ــ محاربة الخمول والكسل: لاشك أن حمل الماء واستعماله لاسيما في الأجواء الباردة، مع الاستعداد والتأهب لأداء كل صلاة أمر يولد النشاط والجد والاجتهاد على خلاف المنافقين الذين “إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى”.
ــ التيقظ المتجدد: عند سماع الآذان تجد الناس يستعدون للصلاة فالتقي منهم يترك تجارته وماله وعياله لأنه يدخل ضمن المنادى عليهم بـ”يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع” والمنافق لا يأبه لذلك، فلا بأس أن يورط الأب ابنه من أجل اختيار المصير مع تنبيهه إلى تأمل تلك الحركات والخطى الوئيدة التي تتوجه صوب المساجد لتلبية نداء ربها، وإشارة واحدة من الوالد لإثارة انتباه الطفل كفيلة بأن تجعله يشارك الركب المتوجه إلى المسجد أو على الأقل تترك له انطباعا قد يتطور إلى الأحسن مع تقدم الوقت. ومعلوم “أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة” 1.
الاحتكاك بالجماعة: وهذا الأمر مهم جدا لأن الطفل يكون مقبلا على الدراسة ومن تم فالانخراط ضمن النشاط الجماعي يبدأ من المسجد، وخصوصا صلاة الجمعة، فلا عجب إذن أن نقول أن للمسجد دور ريادي في استئناس الطفل بالجماعة والاحتكاك بها.
اغتنام الفرص: والصلوات لها أوقات معلومة فإذا سها المرء عن وقتها والجماعة ضاعت منه حسنات كثيرة مثل ذلك العلم الذي يذهب أهله الحافظين له وإذا لم ينتبه طالب العلم ضاع منه زمن قد لا تعود فوائده قال الماوردي رحمه الله: “فينبغي لطالب العلم أن لا يني في طلبه وينتهز الفرصة فربما شح الزمان بما سمح وضن بما منح” .
يتبع بإذن الله تعالى
————————-
1- زاد المعاد لابن القيم الجوزية ج1 ص25 وصححه الألباني في صحيح الترمذي الباب 185الجزء 1: برنامج منظومة التحقيقات الحديثية من إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية.
ــ أدب الدنيا والدين للإمام الماوردي تحقيق محمد الصباح ج1 ص 51ط 1985

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *