كما هو معروف أنه لا يوجد فرد واحد في الكون يريد الفشل بملء إرادته، إنما يفعل ذلك عن جهل وقلة دراية أو يُدفع رغما عنه دون أن يكون له مجال للاختيار.
والفشل ناتج عن التيه في الفكر كما يعبر عنه طه عبد الرحمان إذ يقول: “التيه في الفكر كالتيه في الأرض، إن لا أهداف يعلمها التائه يقينا، حتى يتجه إليها، ولا وسائل يملكها حقا توصله إلى هذه الأهداف، والتيه الفكري الذي أصابنا ينطق به حال الشتات الذي يوجد فيه أهل الفكر” .
ومن هنا أبدأ حيث انتهى طه عبد الرحمان إذ أن التلميذ بعد الحصول على شهادة الباكالوريا يقع في نوع من الشتات وعدم الاستقرار الذهني وهذا التململ وعدم الاستقرار “يزيد من عنف التوترات التي تميز هذه المرحلة” -مرحلة المراهقة- حيث يقف أمام مجموعة من الاختيارات وعليه أن يختار، وعلى هذا الاختيار سيستقر المصير ويتحدد المستقبل، فإن وفق في ذلك يجني النجاح والسعادة وإن لم يوفق يعاني طيلة حياته من سوء اختياره . إذن فعملية الاختيار تعتبر مشكلة لابد منها، وعلى التلميذ أن يتخطاها بتفهم ووعي كبيرين.
إن الحكمة تقتضي بأن يتوجه التلميذ وفق ما تُمليه عليه ميوله واستعداداته فيكون مدفوعا إلى ذلك برغبة تحقق له ما يطمح إليه ضمن إطار التكامل الاجتماعي السليم؛ بحيث يكون الفرد في خدمة المجتمع وبكل ما يملك من طاقات كامنة وظاهرة وبحيث يشكل المجتمع الأرضية الصالحة والهادفة إلى استيعاب تلك الطاقات .
من هنا يأتي الواقع ليلعب دوره في هذا المجال، فإما أن يكون مساعدا منشطا بحيث يسمح للفرد بالوصول إلى ما رغب فيه وخطط له، وإما أن يكون معيقا له ومحبطا إذ لا يترك له المجال لما أراد وطمح.
من هذه الزاوية نتساءل ما هي الإكراهات الميدانية والواقعية التي تقف أمام اختيارات التلاميذ والطلبة؟
سأحاول في هذا المقام أن أصف ما يعيق ويمنع مسيرة هذه الفئة في الوصول إلى طموحاتها والتشبث بميولاتها وذلك سعيا منا إلى تمكين التلميذ من أن يستوعب واقعه ويكون على دراية به ليستطيع تخطي ما يستطيع تخطيه.. “فمن حق كل فرد (تلميذ، طالب..) أن يطمع ويبني مشروعه المدرسي والمهني ويرى مستقبله بعيون وردية” ، ومن بين هذه العوامل نذكر أهمها:
1- العامل الذاتي:
إن كل نجاح مهني يفترض قبل كل شيء وجود عامل الرغبة الهادفة إلى تأمين حاجة ذات قيمة قصوى في نظر الفرد، وأيضا عامل الذكاء بنسبة تتلاءم مع مستوى المهنة ودقتها، إلى جانب القدرة الكافية والفرصة المتاحة لتنفيذ هذه المهنة في ظل المؤثرات المتكيفة اقتصاديا واجتماعيا وتربويا، وبقدر ما يختل التوازن بين هذه العوامل بقدر ما تكون نسبة الفشل محتملة وموجودة.
من جهة ثانية فإن اختلال هذا التوازن ليس إلا نتيجة تدخل الواقع بتأثيره المعيق أحيانا والمحبط أحيانا أخرى.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التلميذ الذي يختار حسب ما يمليه عليه الواقع أي بشكل لا يتوافق كل التوافق مع ميوله واستعداده يستطيع أن ينجح ويستطيع الوصول، بالرغم من ذلك فإن هذا النجاح يعتبر فشلا لأن المردود الاقتصادي ناهيك عن المردود النفسي سيكون أكبر على الصعيد الفردي والاجتماعي لواءمتهن ما يوافق ميوله.
2- عامل الأهل:
إلى جانب التأثير الذاتي نشير إلى تأثير الواقع الناتج عن الأهل، فقد يفشل الأب في الوصول إلى مهنة يحبها ويتمنى احترافها، فيرى في ابنه امتدادا لشخصيته، ووسيلة يحقق بها ما فشل هو في تحقيقه، فتجد الأب يدفع ابنه دفعا مستبعدا استعداداته وميوله، وغالبا ما يؤدي ذلك التسلط إلى الإرباك والفشل.
يضاف إلى هذا الوضع المعيق تأثير الأهل من الناحية الاقتصادية إذ لا يستطيعون تلبية حاجاته الدراسية.
من ناحية أخرى تجد بعض التلاميذ يتركون كل آمالهم وكل ما كانوا يفكرون فيه ويخططون له.. ويفضلون ما ينصح به الأقارب لاعتقادهم أنهم أصحاب المشورة والخبرة في الحياة.
وفئة الأخرى تذهب حيث يكون رفاقهم.
3- عامل الصدفة:
ومن عوامل الواقع المؤثرة أيضا الصدفة إذ تلعب دورا في حياة الإنسان، حيث إن كثيرين من التلاميذ يتركون لهذه الصدفة أن تؤثر في عملية الاختيار، فيتوجه التلميذ بعد نيله الشهادة لتقديم طلبات انتساب إلى مدارس ومعاهد متنوعة، والتحاقه يكون مرهونا بالتي ينجح في مباراة الدخول إليها.
يعني ذلك أنه لا يهتم بدراسة معينة، بل يترك للصدفة أن تأخذ مجراها. والشواهد كثيرة بين أفراد مجتمعنا الذين بدلت لديهم الصدفة وبصورة جذرية كل ما كانوا قد خططوه ورسموه للمستقبل.
4- عامل الحاجة:
بعد الصدفة تأتي الحاجة لتؤثر في توجيه المرء في طرق لا ميل له فيها وإنما يساق إليها لسد حاجة، ويندفع باتجاهها لأنها توفر له دخلا أكبر في الوقت الحاضر، وبهذا يكون المرء قد أعمت عيناه المادة، وأطاحت بطموحه وآماله، وعندئذ يكون أثر الواقع مرا لأن الفشل سيأتي لاحقا على صعيد التوافق بين الإنسان وما يمتهن. وبهذه الحال يعتبر الرجوع عن الخطأ متعذرا أو صعبا لأن المرء يكون قد تعود على هذا العمل أوخطا خطوات واسعة إلى الأمام ولا يمكنه أن يبدأ من جديد.
5- عامل المقاعد المحدودة في البنية التربوية:
من بين الإكراهات الأساسية التي تعترض الانتقال وقرارات التوجيه إلى مختلف أنواع الدراسة وفي جميع المستويات، مسألة البنية التربوية والمقاعد المحدودة بالمؤسسات المستقبلة، إذ يتم التنصيص صراحة على تشكيل عدد محدد من الأقسام ذات التخصصات العلمية وخصوصا التقنية، حيث إن الأمر يتعلق بأطر التدريس والقاعات المتخصصة ، وهكذا يتم إقصاء ترشيحات التلاميذ مما يستوجب على المقصيين البحث على منافذ أخرى قد لا تتوافق مع طموحاتهم.
6- مستوى التحصيل الدراسي عند التلاميذ في اللغة الفرنسية:
أما بخصوص مادة اللغة الفرنسية، التي تدرس بها عدة تخصصات علمية وتقنية مدرسية ومهنية وتكوينية وجامعية، فيجزم الأساتذة أن أغلب التلاميذ والطلبة لا يتحكمون في كثير من المناحي المرتبطة باللغة الفرنسية وذلك من قبيل القراءة والكتابة والتعبير والتراكيب.
من هذا المنطلق فإن التلاميذ تتشكل لديهم مواقف معادية للتخصصات التي تَمتُّ للغة الفرنسية بصلة خاصة التخصصات التقنية والتكنولوجية مما يؤدي بهم إلى التسجيل بكليات العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية والآداب والعلوم الإنسانية، تخوفا من فشلهم في المسالك العلمية.
نستنتج مما تقدم أن واقع التلميذ يمكن أن يقف حجر عثرة أمام طموحاته وارتقاء مستواها، هذا لا يعني أن الواقع لا يمكن أن يكون مساعدا بل بالعكس يمكن أن يكون مشجعا جدا. وما يجب أن نشير إليه بعض الحالات الاستثنائية المخالفة لما افترضناه لطغيان أحد العوامل على سواه.
وبعد هذا الوصف يجب على أولياء الأمور أولا والجهات المسؤولة والتلميذ أن يستوعبوا موقعهم في العملية التوجيهية؛ وأن يتحمل كل واحد منهم مسؤوليته في ظل التكامل بينهم للتمكن من بناء مستقبل أفضل وإعداد مجتمع تعلو وجوه أبنائه بسمة الفرح وإشراقة الأمل بالغد الواعد.