من الطبيعي جدا بعد التعرف على حقيقة الاستشراق أن يكون أول هدف للأعمال الاستشراقية الطعن في كتاب الله تعالى وقد كان أول طعن فيه أن نسبوا تأليفه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما فعل المستشرق الفرنسي كلود إتيان ساڤاري (1755-1780) Claude-Étienne Savary في ترجمته للقرآن على الغلاف وهو مطبوع في جزأين في مجلد واحد في أكثر من 400 صفحة؟
بل زعم ساڤاري هذا أن السور الأخيرة من القرآن شعر صريح من شعر النبي صلى الله عليه وسلم!
وقال جورج سيل G.SALE في مقدمة ترجمته الانجليزية الشهيرة في الوسط الاستشراقي: (أما أن محمدا كان مؤلف القرآن والمخترع الرئيسي له فأمر لا يقبل الجدل وإن كان من المرجح مع ذلك أن المعاونة التي حصل عليها من غيره.. لم تكن معاونة يسيرة).
وذهب ريتشارد بيل RICHARD BELL في مقدمة ترجمته للقرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد في كتابة القرآن على الكتاب المقدس خصوصا العهد القديم قسم القصص.
وذهب بعضهم إلى أنه كان قد أخذ أمورا من بحيرا الراهب وانظر (مدخل إلى القرآن) لعبد الله دراز وغيره.
وهذا الذي جعل بعض الكتاب المسلمين ينفون لقياه ببحيرا تهربا من لوازم إثبات اللقاء كما وضعها أمثال ذلك المستشرق؛ والصواب إثباتها وتحقيق أمر القصة كما فعل كثير من علماء الحديث كفعل شيخ شيخنا الألباني فإنه في كتابه (دفاع عن الحديث النبوي) (ص:69) كتب مقالا بعنوان (حادثة الراهب بحيرا حقيقة لا خرافة) ونشر في المجلد 26 من مجلة (التمدن الإسلامي) ص:167-175.
وزعم بعض المستشرقين أن القرآن روي بالمعنى ابتداء من العهد الأموي معتمدين على حقيقة اختلاف القراءات!
وزعموا أن في القرآن بعض السور المقحمة فيه وينقلون شيئا فيه عن ابن مسعود ولا يصح عنه. انظر زقزوق (ص:97).
وقد استفاد الروافض من شبهات المستشرقين في وجود النقص والزيادة في القرآن فاحتجوا بها على وجود التحريف في القرآن وبئس ما قالوا!!
وزعم بعضهم أنه رديء الذوق مختل ممل كما قال المستشرق الهولاندي المشهور دوزي، وكيف يذوق طعم حلاوته من كان مريض اللسان ..والقلب! كيف وقد تذوقه المشركون وحكموا بطلاوته وحلاوته وإغداقه وإثماره.. وإذا لم تستح فاصنع ما شئت!
وزعموا أن القرآن أنزل منجما ليستطيع النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيد فيه آيات في سعة من أمره وانبساط متى حلا له على حسب الوقائع.
ولأجل كل ذلك -قصدا وبغير قصد- كانت ترجماتهم غير سليمة ولا دقيقة بل كانت تفسد المعنى وتحيل القارئ إلى معاني غير مقصودة.
ومن تلك الترجمات (ترجمة ساڤاري) وترجمة إدوارد مونتيه السويسري Edward Montet أستاذ اللغات الشرقية وعميد شرفي بجامعة جنيف وللإنصاف وهو القائل: (كان محمد (صلى الله عليه وسلم) نبياً صادقاً)، وترجمة ريجيس بلاشير Régis Blachère -19001973م وهو من أشهر مستشرقي فرنسا في القرن العشرين ومن أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق(!) ولد في مونروج (من ضواحي باريس). تعلم العربية في الدار البيضاء بالمغرب وتخرج من كـلية الآداب في الجـزائر 1922م وعين أستاذاً في معـهد الدراسات المغربية العليا في الـربـاط (1924-1935م) وانتقل إلى باريس محاضرا في السوربون 1938م، فمديراً لمدرسة الدراسات العليا العلمية 1942م وأشرف على مجلة “المعرفة” الباريسية، بالعربية والفرنسية. وألف بالفرنسية كتبا كثيرة ترجم بعضها إلى العربية، ونجح في فرض تدريسها في بعض المعاهد الثانوية الفرنسية. من كتبه:
– ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية في ثلاثة أجزاء، أولها مقدمة القرآن الكريم. ثم نشر الترجمة وحدها في عام 1957م ثم أعيد طبعها عام 1966م وتاريخ الأدب العربي، نقله إلى العربية د.إبراهيم الكيلاني وقواعد العربية الفصحى. وأبو الطيب المتنبي، نقله إلى العربية د.أحمد أحمد بدوي ومعجم عربي فرنسي إنكليزي..
ومن طريف تراجمهم أن ساڤاري ترجم قوله تعالى: (وغرابيب سود) بأنها الغربان السوداء وترجم قوله تعالى: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه) أي أنهم لم يصافحوا إبراهيم فعلم أنهم غرباء على طريقتهم في عدم المصافحة كما زعم المترجم، وخفي عليهم أن أيدهم لم تصل إلى العجل لا إلى إبراهيم!! وربما حصل له ذلك كما يقول إبراهيم عوض في (المستشرقون والقرآن). لأنه ترجمها مع استحضار ما ذكرته توراتهم أنهم أكلوا من العجل!!وعلى هذا قس!
ومسألة استحضار معتقداتهم التوراتية والإنجيلية المزيفة حاضر في ترجماتهم وتعاليقهم فيها ومن طريف ذلك أيضا أن مونتيه ترجم كلمة (الحِجْر) بالحَجَر!!!
ومن أسباب وقوعهم في هذه الأخطاء ضعفهم في اللغة العربية مع عدم اعتمادهم على التفاسير المعتمدة مع كثرتها وعلمهم بها.
ومن تجاوزاتهم في أعمالهم هذه تحريف:
– النطق الصحيح للكلمات العربية مع إمكانية المحافظة على الأداء الصحيح لها بلغاتهم وبعض ذلك مضحك وتوجيهاتهم لذلك أكثر سخافة كقول بعضهم إن معنى اسم (مالك) خازن النار أحد الملائكة!!
– والزعم بأنه وقع تغيير في القرآن محتجين بالاضطراب في بعض الآيات وعدم وضوحها كما فعل مونتيه عند قوله تعالى: (زين لهم سوء أعمالهم) فزعم أنها غير واضحة ثم شكك في أن هذا النص لم يتغير!
بسبب الجهل بالعربية وأساليبها.ويظهر هذا واضحا في كلامه في سورة فاطر .
– وزعمهم التعارض بين الآيات كما يفعل مونتيه بسبب التسرع والجهل.
وزعمهم عدم وجود التناسق بين الآيات تقديما وتأخير من جهة المعنى والتاريخ! كما زعم مونتيه.
– قصدهم المقارنة بين القرآن وإنجليهم المحرف ليستدل على أن الإنجيل المحرف أصل في كثير مما في القرآن خصوصا القصص!
– والتلاعب بالترجمة من حيث تقديم وتأخير الآيات لتعليلات فاسدة كما يفعل بلاشير.
– وعرض القرآن على كتبهم ومقارنتها بها على أنها أصول لها ومن أغربها أن بلاشير زعم أن معنى بيت المقدس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كان بيتا سماويا (أورشليم السماوية). والعجيب أن هذا من عقائد الروافض أيضا.
وممن أحسن فضح بلاشير وسافاري ومونتيه وغيرهم الأستاذ إبراهيم عوض في كتابه (المستشرقون والقرآن) فليراجع للأهمية.
– وزعمهم عدم وجود ترتيب وتناسق بل اضطراب بين السور، فرتبوها زعموا كما فعل ويليام مويل الإسكتلاندي William muil (1819-1905) صاحب كتاب (محمد والقرآن) وله إسهام استشراقي في السيرة النبوية وغوستاف ويل gustav weil وتيودور نولديك الألمانيTheodor Nöldeke (1836-1930) الذي حصل على دكتوراه في سن العشرين في تاريخ القرآن وعمل مدرسا للتاريخ الإسلامي؛ ولهم مقالات في هذا نشرت في الموسوعة البريطانية؛ ولهم ترتيب لسور القرآن على أنها غير مرتبة ترتيبا جيدا وغير منسقة وتحتاج إلى تصحيح في ذلك.
وزعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بالغ في تأليف القرآن حين راعى النزعة الشهوانية للعرب بأن ذكر أوصاف لنعيم بدني في الجنة ولم يتوقف عند حد ذكر النعيم الروحي كما فعل سقراط..!!!
وهذا مذهب النصارى ولعله ثمة علاقة بين عقائدهم وعقائد سقراط وأفلاطون الوثنية كما قال المستشرق الفرنسي جون بارطيليمي سان إيلير j.Barthelemy Saint-hilaire .
(محمد والقرآن) في نحو 350 صفحة زعم فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم تنازل عن جملة من مبادئه التي كان يدعو إليها ليتبعه الناس!!
ومع هذا كله فلبعض المستشرقين أشياء طريفة في الباب… فقد قامت الباحثة المستشرقة الروسية كراتشكوفسكي بإعداد بحث عن نوادر مخطوطات القرآن الكريم في القرن السادس عشر الميلادي ألقي في المؤتمر الدولي الخامس والعشرين للمستشرقين المنعقد في موسكو.
وقد طبع القرآن الكريم إلى أكثر من مائة لغة وبلغت ترجمات معانيه إلى بضع مئات ترجمة كاملة كما عند زقزوق نقلا عن (البيبليوغرافيا العالمية لترجمات معاني القرآن الكريم).
هذه جملة الجرائم الاستشراقية في حق كتاب الله تعالى، ولئن كان المستشرقون قد تجرؤوا على ذلك لكونهم غير مسلمين فإن ما يحمد الله تعالى عليه أن الاستغراب لم يقدر أن يسلك نفس مسلك أستاذه الاستشراق في هذا وإلا كان فضح.
مع التنبيه إلى أن عدم تجرئهم على كتاب الله تعالى بهذا فإنه لم يمنعهم حقدهم عليه من أن يثيروا حول تأويله وتفسيره الشبهات ويعرضوا آياته للتشويش ومحاولات التشويه المعنوي بطرق غير مباشرة مخافة الانكشاف. والله من ورائهم محيط.