حوارات فكرية قناديل لإنارة الطريق

عنوان السلسلة

..المقدمة الشعارية للسلسلة

الذل والضعف وفساد العمل.. كل ذلك راجع إلى خلل الأفكار.

وطريق إصلاحها في الحوار..

وهو طريق طويل تحيط به ظلمات، تحتاج إلى قناديل تزيل غبشها، وتقود إلى الضياء الماثل في آخر النفق.

الحلقة 13:

 

مِن أين يمرّ الطريق؟

فروع مفاهيمية

1-الديمقراطية (1)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

لن نطيل في التعريف بالديمقراطية، ولا في تتبع مسارها التاريخي، فليس ذلك من صميم ما نقصد إليه في مسيرتنا هذه. ولكننا نكتفي ببيان بعض إشكالات الديمقراطية، أو ما يمكن أن يُنتقد به هذا النظام السياسي.

ولا شك أن المتتبع للاجتهادات البشرية في مجال السياسة، يرى أن الديمقراطية -على الأقل: في بنائها النظري- هي أفضل الأنظمة السياسية الوضعية الممكنة، وأقلها فسادا. ونتج من هذا أن استقر في أذهان الناس اليوم عدم إمكان نقدها أو الاستدراك عليها، بل صار الذي يتكلف ذلك متهما بتبني الفكر الشمولي، أو بتسويغ الدكتاتورية والاستبداد!

لقد أقنعت الثقافةُ المهيمنة عمومَ الناس بأن النظام الديمقراطي هو “نهاية التاريخ” في مجال السياسة، وأنه النظام السياسي الأخير الذي سعت الإنسانية إليه -في مسار تصاعدي- عبر تاريخها الطويل، ولا يمكن تصور طريقة أخرى للحكم. فلذلك صار نقد الديمقراطية عندهم أمرا مستغربا.

ويمكننا في هذه العجالة اختصار الانتقادات الفلسفية الموجهة إلى النظام الديمقراطي، في ثلاث مؤاخذات([1]):

المؤاخذة الأولى:

التجريد في مفهوم الفرد والشعب، مما يجعل الديمقراطية “لا جسم لها”، لأنها لا تقوم على تجسد السيادة في كيان واقعي واضح المعالم.

فالشعب لا يعدو أن يكون مجموعة من الأفراد يضاف بعضهم إلى بعضهم الآخر؛ فهو كيان مجرد لا واقعي. وحين تقرر الديمقراطيةُ أن السيادة للشعب، فمن صاحب السيادة هذا؟ وما معالمه التي تشكّل كيانه؟ وكيف السبيل إلى التعبير عن هذه السيادة؟ أيكون ذلك من جميع أفراده كما في طوباوية الديمقراطية المباشرة، أم من طريق هيئة منتخبة تمثل أغلبية الأفراد كما في الديمقراطية غير المباشرة؟

وفي حالة حصر التعبير عن السيادة في الأغلبية عبر هيئة تمثلها، فكيف يمكن حفظ حقوق الأقلية التي لا توافق على رأي الأغلبية؟ وكيف يضمن أن الأغلبية على حق في اختياراتها في مجال الحكم؟ وكيف يمكن تفادي الكسر الذي يحصل بين العموم الشعب وممثليهم، الذي يصبحون نخبة جديدة منفصلة في آمالها وآلامها عن عامة الشعب؟ ثم كيف يسوّى بين أصوات الناخبين، مع التفاوت الكبير فيما بينهم، في العلم والفكر والاهتمام بقضايا السياسة؟

وإذا كان النقص في المساواة بين المواطنين مشكلا قائما، فإن العكس –وهو المساواة المطلقة– مشكلة أيضا، كما يقرر ذلك مونتسكيو في “روح القوانين”، حين يرغب كل واحد أن يكون مساويا لهؤلاء الذين يختارهم لقيادته، فتكثر مساعي الشعب إلى منافسة المنتخبين في سلطتهم، مع العجز عن الاضطلاع السليم بهذه المسؤولية.

 

المؤاخذة الثانية:

اشتمال الديمقراطية على بذرة دفينة لأشكال شمولية متعددة، تختفي تحت شعار المساواة بين المواطنين أو الاعتداد بالقانون.

وقد بدأ هذا النقد منذ أفلاطون، الذي قال في “الجمهورية” إن الحرية المطلقة تؤدي إلى عكسها أي إلى العبودية المطلقة، والديمقراطية عنده يمكن أن تنحدر إلى نقيضها أي إلى الاستبداد. وملخص رأيه: أن الحرية المطلقة تمتد -ولا بد– إلى كل شيء، خاصة إلى الأسرة والأخلاق، فيؤدي انحطاطُ القيم إلى سعي الناس إلى التخلص من هذه الحرية المُهلكة، وإعطاء كافة السلطات لمن ينقذهم منها، فيرجع الاستبداد. وقد تكرر هذا السيناريو الذي وصفه أفلاطون مرارا عبر التاريخ.

وشرح توكفيل عام 1840 الفكرةَ نفسها في كتابه “عن الديمقراطية في أمريكا”، فالشعب ينكفئ على نفسه، وينشغل بملذاته الصغيرة التي يتيحها له مناخ الحرية الديمقراطية، ويغفل القضايا السياسية، مما يفسح المجال أمام قوةِ وِصايةٍ، تفضي إلى “استبداد ديمقراطي”.

ولذلك فإن إدموند بيرك يرى أن حقوق الإنسان التي تكرسها الديمقراطية في شعاراتها، ليست سوى وهم كبير، لأن هذه الحقوق لا تطبق في الواقع، بل تصبح الديمقراطية مرادفة لدكتاتورية أقلية صغيرة، أو نخبة مخصوصة قادرة على التحكم في الجماهير. ومن هنا، تنبأ إدموند بيرك بأن الثورة الفرنسية التي رفعت شعارات حقوق الإنسان والمواطن، ستفضي لا محالة إلى انحراف نحو الدكتاتورية. وهذا ليس خاصا بالثورة الفرنسية، بل إن كثيرا من الأنظمة الاستبدادية أفرزتها الديمقراطية، وكثير من الحروب المدمرة والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان أنتجتها إرادة شعبية من طريق ديمقراطي، بدءا برعب الثورة الفرنسية، ومرورا بالنظامين الفاشي والنازي، وانتهاء بجرائم أمريكا الديمقراطية في عالم اليوم.

وما ذكره بيرك وغيره عن دكتاتورية الأقلية، مشاهَد في ديمقراطيات عصرنا بوضوح شديد، فالذي يحكم ليس إرادة “الشعب” -هذا الكائن البالغ من التجريد مَداه– وإنما إرادة النخبة المسيطرة على وسائل توجيه الرأي العام، والقادرة على الضغط على التيارات السياسية، وتوجيه اللعبة لصالح تيار معين، بحسب ما تقتضيه مصالحها.

وقد كتب ريمون آرون عام 1962: “كل المجتمعات الديمقراطية منافقة، ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك. في عصرنا، لا يمكن إقامة نظام سلطوي إلا باسم الديمقراطية، لأن جميع الأنظمة الحديثة مبنية على مبدأ المساواة. لا يمكن إقامة سلطة مطلقة إلا بادعاء السعي لتحرير الناس”. ومحصل هذا النفاق –أو الديماغوجية– البحث عن رضا الشعب للحصول على أصواته، من أجل السيطرة عليه. فالشعب يطالب منتخبيه بإرضاء رغباته –كائنة ما كانت-، والمنتخبون بالمقابل يطلقون الوعود الكاذبة لإرضاء الشعب، والتمكن من التحكم التام فيه، وتكوين “دكتاتورية النخبة”!

 

المؤاخذة الثالثة:

أن الديمقراطية نظام “لا عقيدة له”، فهو يرفض كل حقيقة متجاوِزة، وكل شكل من أشكال التبعية الفكرية. وهذا يقتضي أن القوانين التي تسير عليها الدولة الديمقراطية خاضعة لأهواء الناس ورغباتهم، أو بعبارة أخرى: “العدد” هو الذي يتحكم في الحق، ولا يوجد حق ثابت أعلى، مستقل عن إرادة “العدد”.

وهذا يجرنا إلى الحديث عن نظرة الشريعة الإسلامية إلى هذه الحقيقة المكوِّنة لماهية النظام الديمقراطي.

وهو موضوع المقال المقبل.

 

[1]– يراجع كتاب:

Critiques de la démocratie, Jean-Marie Donegani & Marc Sadoun.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *