من حق أي شعب أن يختار عَلَمَه الذي يدل على هويته التاريخية والحضارية والثقافية والدينية، يتولى ذلك علماؤه ومثقفوه وسياسيوه وغيرهم، وأن يكون ذلك نابعا من إرادتهم الحرة دون تدخل جهة أو منظمة أو دولة أجنبية كيفما كانت طبيعتها وعلاقتها ببعض أفراد هاته الهوية أو تلك، فيختارون من الألوان والرموز والأشكال ما يشمل كل تلك العناصر السابقة أو أكثرها. غير أن العَلَم الذي تزعم الأكاديمية البربرية أنه يمثل الأمازيغ ويدل على هويتهم الثقافية التي تميزه عن غيرهم من الأجناس البشرية نجده -في الحقيقة- عكس ذلك، وذلك لما يلي:
أ- هذا العَلَم لم يشارك في تصميمه واختيار ألوانه ورموزه ثم الموافقة عليه كل العلماء والمثقفين والمفكرين والمتخصصين الأمازيغ، وإنما تم تصميمه من طرف رجل من القبائل في الجزائر يدعى محند أعراب بسعود كما يبدو في الظاهر، في حين أن المصمم الفعلي ومهندس الخفاء هو الضابط اليهودي جاك بينيت Jacques Benet كما سبق معنا في موضوع العدد السابق، والأسباب الداعية إلى ذلك مرت معنا أيضا في الموضوع نفسه. وقد تمّ تبنّيه و(ترسيمه) و(تعميمه) بعد اختياره بحضور بعض الجمعيات (الأمازيغية) التي تمثل نفسها فقط ولا تمثل كل الأمازيغ.
ومهما يكن من أمر هذا العلم فغاية ما هنالك أنه يمثل أمازيغ القبائل الجزائرية ولا علاقة له بأمازيغ المغرب وأمازيغ ( فازاز) على وجه التحديد، ولذلك نعتبره علما أجنبيا فرنسي التصميم لا يمثل الهوية التاريخية واللغوية والثقافية العريقة لأمازيغ الأطلس المتوسط.
فكيف نقبل نحن أمازيغ الأطلس المتوسط عَلَما لم نشارك فيه ولم نُمَثَل فيه ولم يأخذ أحد رأينا فيه؟
ب– قيل في تفسير ألوان علم الأكاديمية البربرية أن اللون الأزرق يمثل البحر الذي يحُدّ شمال إفريقيا، واللون الأخضر يمثل الجبال و السهول، والأصفر يمثل الصحراء، والرمز الذي يتوسط العلم هو حرف الزّاي!
قلنا نحن إن الألوان والرموز التي تم اختيارها لا تمثل الهوية الحقيقة للأمازيغ -كما سنبينه بعد- وإنما تمثل (البربر) كما يراهم جاك بينيتJacques Benet مهندس العَلَم لا كما نرى نحن أنفسنا.
فلَمْ نحسم الأمر في الحروف الأمازيغية ولا في طريقة كتابتها، فحرف (الزّاي) الذي تزعم الأكاديمية البربرية أنه من خواص اللسان الأمازيغي ليس كذلك؛ ذلك أن هناك حروفا أخرى من خواص اللسان الأمازيغي ك: اللام التي تُنطق بين اللام والراء ومثاله (يولي عاري) أي صعد الجبل، فاللام في (يولي) لا هي باللام الصريحة ولا هي بالراء الصريحة، وبعض المناطق تنطق (اللام) خليطا من حروف اللام و الراء والجيم.. وهكذا.
فلِمَ تم اختار هذا الرمز دون غيره هل لِتشابهه مع الشمعدان اليهودي (المينوراه) أم لشيء آخر!
ومعلوم أن هذا الرمز لم يتم العثور عليه في الشمال الإفريقي وحسب، وإنما عُثِر عليه منقوشا على صخور جنوب الصحراء في مناطق لا تربطها علاقة لسانية أو عرقية مع البربر، بل لازالت بعض قبائل الدوغون تعتمده في طقوسها (الروحية) إلى يومنا هذا. بل إن الكتابة التي اقترحتها الأكاديمية البربرية نجدها في حقيقة الأمر عبارة عن خليط من النقوش اللحيانية والثمودية والصفائية وغيرها، التي عُثر عليها في شبه الجزيرة العربية والشام والشمال الإفريقي وجنوب الصحراء، منها حرف (الزاي) الذي تكرر كثيرا في هذه النقوش (أنظر الصور أسفله) (الكتابات القديمة في المملكة العربية السعودية؛ د.سليمان الذييب).
الصورة 1: تم العثور على هذه النقوش في شبه الجزيرة العربية شمال السعودية
الصورة 2 : تم العثور على هذه النقوش في الشام جنوب سوريا
هذه النقوش التي عُثر على بعضها في الشمال الإفريقي وتزعم الأكاديمية البربرية أنها من خواص الشعب الأمازيغي، يبطل ذلك النقوش التي تشبهها والتي تنتشر كثيرا في شبه الجزيرة العربية والشام وجنوب الصحراء. ويمكن تفسير ذلك بكون الشعوب التي خلّفت هذه النقوس استوطن بعضها المشرق واستوطن بعضها المغرب، أو أن قوافل التجارة ونقل البضائع بين المشرق وشعوب حوض البحر الأبيض المتوسط تولّت نقل هذه النقوش إلى الشمال الإفريقي..
ج– إذا كان عَلم الأكاديمية البربرية الذي تم فرضه على باقي الأمازيغ دون رضاهم يعبر عن الهوية الثقافة دون الهوية السياسية والسيادة الوطنية لدولة ما، فإنه بالإضافة إلى العنصر الجغرافي ينبغي أن يشمل هذا العَلم على عنصر القوت أو مورد العيش و حالة الترحال التي عاشها هذا الشعب طوال حياته والجانب الوجداني عند الإنسان الأمازيغي، وهذا كله لم نجده في هذا العَلَم، فكيف نعتبر إذن علما لنا يمثل هويتنا!؟
خامسا- العَلَم الأمازيغي الذي نقترحه
العَلم الذي نقترحه يحتاج أن يشتمل على العناصر التي تم إغفالها عن قصد وتعويضها بأخرى -لا علاقة لنا بها- في علم جاك بينيت، عَلم يمثل عمق الهوية والخصوصية الأمازيغية، وذلك كما يلي:
أ- عنصر الأرض: الإنسان الأمازيغي مرتبط كثيرا بالأرض ارتباط رضيع بأمه، فهي مورد رزقه وكسبه ولا يكاد يستغن عنها في عيشه، يحرثها ويزرعها ويحصدها ويرعى فيها أغنامه وبهائمه، وفي حال الغزو -كما مر- يدافع عنها بدمه وماله. ولون الأرض كما هو معلوم هو اللون البُنّي لا الأصفر كما في علم بينيت.
ب- عنصر السماء: أما السماء فإن ارتباط الأنسان الأمازيغي بها لا يقل عن ارتباطه بالأرض، فكثيرا ما كان أجدادنا يطيلون النظر إلى السماء ترصدا لحالة الطقس وترقبا للمطر، و كثيرا ما كانوا يخرجون إلى سكينة الفلاة ويستلقون على جنبهم ويتكئون على مرافقهم مع استغراق تام في التأمل والنظر إلى القمر والنجوم في حالة وجدانية صافية، خلالها كانوا يتأملون شساعة الكون وعظمة الخالق، وتراودهم حينها كثير من الأسئلة الوجودية في صيغها البسيطة؛ فيتفكرون في أصلهم وما قبل وجودهم كما يتفكرون في وظيفتهم في هذه الحياة ثم كيف سيكون مصيرهم بعد الممات وغيرها. كما يرتبطون بالسماء في مواسم القحط والجفاف، إذ كانوا ينظمون ما يسمى ب اللاّمّة أو اللامث، يجتمع فيها أهل القرية فيذبحون ما يُذبح من البهائم فيأكل الجمع ويطعم الأطفال، ثم بعدها تُرفع أكف الضراعة إلى السماء طلبا للغيث واستجلابا للمطر، ولون السماء كما هو معلوم هو اللون السماوي.
ج- عنصر الإنسان: فالإنسان الأمازيغي هو أصل القضية وعليه مدار العَلَم الذي يمثله، ولذلك ينبغي أن يحضر فيه بأبعاده النفسية والوجدانية والعقلية والحركية والمهارية، كما ينبغي أن يحضر بعلائقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع قبيلته ومع غيرها، وهذا ما لم نجده في عَلم بينيت.
ومن هاهنا يبدو لنا أن العَلَم الذي يعكس الهوية الأمازيغية كما هي دون تزوير أو تدخل هوية أخرى كانت -فيما سبق ولا زالت- خصما وعدوا للهوية الأمازيغية الأصيلة، ينبغي أن يشتمل على الألوان التالية:
1- اللون السماوي في النصف الأعلى من العَلم وليس الأزرق؛ لأن هذا الأخير يشير إلى البحر، والبحر يمثل حدا جغرافيا من الشمال، ما جعل علم جاك بينيت يمثل حدودا جغرافية لدولة ما لها سيادتها ومؤسساتها الخاصة، والعلم في حالتنا هاته يمثل هوية شعب لا دولته، بحيث يحق لكل إنسان أن يرفعه في أي بقعة من بقاع الأرض. هذا اللون السماوي يتوسطه الهلال وخمسة نجوم، للتعليل الذي ذكرناه.
2- اللون البُنّي في النصف الأسفل من العَلم ويتوسطه رمز المحراث الخشبي الذي كان وسيلة الحرث الوحيدة عند أجدادنا القدامى، وشريط أخضر اللون يفصل بين اللونين يمثل المروج ومواطن الرعي، بالإضافة إلى شجرة الأرْز التي تتوسط هذا العلم، فروعها في اللون السماوي وجذوعها في النصف البُنّي. هذه الشجرة التي كانت مصدر الطاقة عند أجدادنا في التدفئة والطبخ، كما كانت ركنا أساسيا في البناء وأواني الخشب، فمنها يُجعل السقوف و أعمدة الخيام..
خاتمة
بعض (الأمازيغ) سينزعجون وستنتفخ أوداجهم غضبا مما ذكرناه، هؤلاء لا نقصدهم بالكلام ولا يهمنا رأيهم، بل إننا نعتقد جازمين أننا لا نشترك معهم في نفس الهوية ولا نتقاسم معهم نفس القضية ولا نفس التاريخ ولانفس المصير، فالأمازيغ كما رأيناهم -ونحن منهم- جنس بشري عظيم من أهم صفاته الشجاعة والشهامة والكرم والثبات على الحق مهما كان، جنس بشري لم يتنكر لهويته فهو أمازيغي بالأصل واللسان، ولم يتنكر لأمته فهو جزء منها، دفع بعلومها وثقافتها وحضارتها إلى الأمام. جنس بشري شريف لا يضع يده في يد صهيون، وتأبى عليه نفسه أن يُوظف توظيفا خسيسا ينسف به ما بناه أجداده العظماء الشرفاء. جنس بشري حكيم يعرف العدو من الصديق ويعرف الفاتح الذي كأنه هو ابتداءً من المحتل الذي اغتصب أرضه وسرق خيراته وأهان كرامته. هكذا هم الأمازيغ ولا حاجة لإنكار ما شهد التاريخ الصادق بصحته… وغير ذلك فهو حركات صهيونية ناطقة بالبربرية على غرار الحركات الصهيونية الناطقة بالعربية والفرنسية والإنجليزية وغيرها.
والله أعلم.