من نِعَم الله على هذه الأمّة أن أكرمها بعلماء ربّانيين، ودعاة صادقين يعلّمون النّاسَ الخيرَ، ولا ينتظرون من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا، لأنّهم يطمعون فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أمّا الدّنيا الزّائلة فإنّهم لا يقيمون لها وزنًا ولا أدنى اهتمام.
فهم ورثة الأنبياء، الذين أوصانا دينُنا الحنيف باتّباعهم، والاقتداء بهم في كلّ صغيرة وكبيرة موافقة لكتاب الله وسنّة رسوله، لأنّهم الموقّعون عن الله. لذلك يجب احترامهم، وتبجيلهم ومعرفة مكانتهم، وعدم الخوض في أعراضهم، فلحومهم كما هو معروف مسمومة، وعادة الله في هتك ستر من يتنقّصهم معلومة.
ولعلّ من باب الوفاء لهم تعريف النّاس بهم، وبمناقبهم، ونشر علمهم، لذلك فقد عنّ لي أن أعرّف بشيخي وأستاذي الشّاعر الفحل والأديب الأريب والفقيه النّابغة محمد بن إدريس بلبصير حفظه الله ورعاه.
فإنّني تتلمذت له، وأخذت عنه، واستفدت منه، وكنتُ قارئه وقائدَه لمدّة سبعة أشهر، ممّا جعلني أعاين بنفسي أخلاقه الفاضلة، وأدبه الجمّ، وعبوديته لرّبه المتواصلة، وعصاميته التي قلّ نظيرها عند المبصرين فضلا عن المكفوفين. فلن أقول إلاّ ما شاهدته وعاينته بنفسي لله ثمّ للتّاريخ، (وما شهدنا إلاّ بما علمنا) فدونكم أخبارَه ومناقبه في غير تطويل مملّ، ولا تقصير مخلّ…
وُلِدَ شيخنا حفظه الله سنة 1944م بمدينة سيدي قاسم المغربية، وفقدَ بصره في سن الخامسة. ورغم ذلك لم تقف هذه العاهة حجرَ عثرة في طريقه، فأقبل على حفظ القرآن بجدّ واجتهاد، ومراقبة صارمة مع عناية فائقة من والده الصّالح رحمه الله، فأتمّه وهو دون العاشرة من عمره، ثمّ انطلقَ لحفظ المتون في الفقه والنحّو وغيرهما بتوجيه من بعض علماء بلده.
ثمّ رحلَ بعدَ ذلك في طلب العلم بعزيمة قويّة، وهمّة عالية، فاستقرّ به المقامُ بمدينة فاس سنة 1959م حيثُ حصلَ على الشّهادة الابتدائية من مؤسّسة محمد الخامس لإنقاذ الضّرير، ثم انخرط في سلك الذين يدرسون الثّانوي حتى نال شهادة الباكالوريا من القرويين سنة 1970م. ثم استمرّ في دراسته الجامعية على يد علماء أجلاّء من مختلف العالم العربي، وعلى رأسهم، أمجد الطّرابلسي، ونجيب البهبيتي، وسامي نشار، وعلاّل الفاسي، وغيرهم من العلماء والمفكّرين رحمهم الله.
ولكنّ المنية أنشبت أظفارها في والده الكريم على حين غفلة منه، الشيء الذي جعل شيخنا يقنع بالشّهادة الجامعية فقط على مضض، وهو الذي كان ينوي بكلّ شوق وشغف أن يتمّ دراسته إلى أن يحصل على الدكتوراه في الأدب العربي، ولكن كما قال أبو الطّيب:
ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ***تجري الرّياحُ بما لا تشتهي السّفن
نال الشهادة الجامعية سنة 1975م، وبعدها عُيّن أستاذًا للّغة العربية والتّربية الإسلامية في كلّ من مدينة فاس، ومكناس، وتمارة، وأخيرا بني ملال إلى أن تقاعد سنة 2004م.
وكانَ ومازالَ إلى يومنا هذا واعظا متمكّنا في المحافل والمناسبات، يخاطب النّاس بأسلوب أدبي فكريّ رائع بعيد عن الأسلوب التّقليدي المُكرّر، ممّا يجعل شريحة كبيرة من النّاس تهفو إليه وتسارع إلى دروسه، وأمّا في الجمعة فإنّ المسجدَ يمتلئ عن آخره قبل الأذان، وفي أثناء الخطبة كأنّ على رؤوس النّاس الطّير لا يحرّكون ساكنا ولا يسكّنون متحرّكا من شدّة تأثّرهم بما يلقيه شيخنا الأديب على مسامعهم.
شُغِفَ بالأدب مذ كان يافعًا، ونظم الشّعر وهو دونَ العشرينَ من عمره، وذهبَ في الولوع به كلّ مذهب حتى أصبحَ شعره في الذّروة ومن يطالع ديوانه سيجد قوّة في اللّفظ، وسموقًا في المعاني، مع أحاسيس رهيفة، ومشاعر صادقة. وقد عالج أغلب فنون الشّعر فيه من نسيب ومديح وهجاء ورثاء وفخر.
وقدْ صدقَ أحدهم حين قال بعد قراءته للدّيوان: قرأتُ ديوانَك التّليد، فعرفتك من جديد، فعذرًا على ما فاتَ من جهلي الأكيد.
ووصفه الشّيخ عبد الله بلمدني مدير دار القرآن بمدينة بني ملال بقوله في تقديمه لديوانه (دم وقلم): أخي وحبيب قلبي الشّاعرُ الألمعي والأديبُ اللّوذعي الأستاذُ الجليل.. ثمّ قال: وهل مثلي يجيدُ العباراتِ التي يُصدّر بها مثل هذا الدّيوان الذي كُتِبَ بدمع رقراق، وسُطّر بحزن وأشواق، كلماته تنفذ بسهمها إلى الأعماق.
وإن كانَ لا بدّ لي من كلمة فإنّي أقول:
إنّ شاعرَنا سيدي محمد بلبصير ليسَ شاعرًا عاديًا ولا مُتكلّما باديا ولا قوّالا في كلّ ناد راويًا. ولا منشدًا بشعره مسَلّيا وإنّما هو شاعر يحملُ هُمومَ أمّة ليكشفَ بشعره ما أصابها من غُمّة. فهو رجل بهموم أمّته مسكون، وبحالها مغموم ومحزون، يسوقه الهمّ تارة إلى محراب المناجاة. فيرفع عقيرته إلى ربّ الأرض والسّموات بكلمات نيّرات تتخيّلها من الوحي قبسات، وتتراءى لك من الله الكريم فتوحات وإلهامات.
ولكنّه يعود مرّة أخرى فيضمد بمرهم شعره الجراحَ، ويُبدّل الأتراحَ بالأفراح، ويزرعُ الآمالَ بلا حدود في الأفئدة والأرواح، حيثُ يُذكّر بعهود الأمّة الذّهبية، وما كانَ لها من ريادة في البشرية وسيادة وسؤدد في الإنسانية. فيهيبُ بجيل الصّحوة ليقتفيَ خُطَى أهل الصّفوة من سلف هذه الأمّة. ليُحقّق الآمالَ ويتقن الخطط والأعمال.
قلتُ: وقد حُبّب إليه العلم والفلسفة والفكر، فعشقَ القراءة والمطالعة، واطّلع على الكثير من أمهات كتب الأدب والتفسير والحديث والفلسفة والتّاريخ وغيرها، وله مكتبة زاخرة بشتّى الفنون، لذلك تجده في محاضراته ودروسه إذا تحدثّ في تفسير القرآن يُخيّل إليك كأنّه لا يحسنُ إلاّ التّفسير، وإذا تكلّم في الأدب والشّعر واللّغة والنّحو والبلاغة وجدته بحرًا لا تكدّره الدّلاء، وإذا تكلّم في الفقه والفلسفة كانَ رأسا فيهما.
قال عنه الناقد المغربي الدّكتور عبد اللطيف الوراري عندما التقاه أوّل مرة بمدينة الخميسات بمناسبة قراءة شعرية: وجدته شاعرًا مُفلِقًا وحييًا، تشعرُ وأنتَ تجلسُ إليه بأنّه مثقّف، مطّلع على كتب الأدب والفكر والتّاريخ، مُتفيّئا ظِلالَ القُرآن وبلاغته، ومُتصيّدًا جواهرَ الشّعر وحِكَمِه النّفيسة من أصحابه ذوي الطَّول الكريم.
وفي عقيقة ابني أسامة وعظَ شيخنا الحضورَ بموعظة بليغة، فَسَّرَ من خلالها سورة (والسّماء والطّارق) لو شهدتها الرّوم وفارس لأسلمتا طواعية كما قيل عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
ويعرفُ قيمة الزّمن، فلا يضيّع من وقته شيئا في غير منفعة، يقدّسه تقديسًا، ويعتريه غضب شديد يقهره بحِلم إذا خالفَ أحدهم موعدًا معه في الوقت المضروب. وقّد قلتُ مرّة لزوجتي لو كانَ الشّيخ عبد الفتّاح أبو غدّة حيّا وعرفَ شيخنا محمد بن إدريس وتعظيمه للوقت لذكره في كتابه المعطار (قيمة الزّمن عند العلماء).
وقد كنت أتأخّر عن موعدي معه لخمس دقائق في بعض الأحيان فأجده ينتظرني حانقًا، ومرّة تأخرت عشر دقائق تقريبا فلم يكلّمني طوالَ الطّريق إلا لضرورة.
قال عنه الدّكتور سعيد شبّار رئيس المجلس العلمي بمدينة بني ملال: إنّ الأستاذَ ابن إدريس نموذج عملي لِقِيمنا الدّينية العملية الضّائعة، إذا وعدكَ كانَ في الموعد والوقت لا يُخلفه. وإذا التزمَ معكَ أدّى الذي عليه بإتقان وتفان، وإذا نسيتَ ذكّرك، وإذا برزت مشكلة بادرك إلى طلب الحلّ مُقترحًا.. وغير ذلك من صور السّلوك العملي الملتزم الذي غدا عملةً نادرةً في زمن هدر الوقتِ وإضاعة الأمانة، والتّهاون في أداء الواجب. [مقدّمة الدّيوان ص:13].
وكانَ ومازالَ إلى يومنا هذا صوّاما قوّاما عابدًا لله، لاهجًا بذكره، تاليًا لكتابه قاعدًا وقائما وعلى جنبه، يسارع إلى المسجد فيصلّي ما شاء الله له أن يصلّي ثمّ يأخذ في ورده اليومي غائبًا عن كلّ ما حوله إلى أن يدخلَ الإمامُ فيصلّي الفريضة بخشوع ثمّ ينصرف إلى حال سبيله بسكينة العلماء والعبّاد.
وأمّا كرمه وجوده وصدقاته فحدّث ولا حرج، وكأنّ المتنبي عناه بقوله:
كذبَ ابنُ فاعلة يقول بجهله ***ماتَ الكِرامُ وأنتَ حيّ تُرزَق
وهو حفظه الله من أشدّ النّاس سلطانا على لسانه، لا يتكلّم في أحد، ولا يسمح لأحد أن يتكلّم في مجلسه بغيبة أو نميمة، وقد نصحني كثيرًا عندما كنت أريد التّكلم في بعض الأمور التي يشعر من خلالها أنّها ستسوقنا لغيبة أو ما شابه ذلك، ويبقى طول الطريق يذكر الله…ولله درّه حين يقول في قصيدته الرّائعة (تحسّر ودعاء):
أخي لا تَسَلْ ما الصّمت عندي وما الأسى فلولا ملامُ النّاس قد عشتُ أبكما
والخصلة الطّيبة التي تعلّمتها منه وما أكثر خصاله، حسن الاستماع والإنصات إلى محدّثه، لا يقاطعك، ولا يستبدّ بالحوار في مجالسه، بل يعطيك الحقّ في التّعبير عن رأيك ولو كنت تصغره بأربعين سنة أو أكثر.
وكان يروق لي كثيرًا شرحُه وثقته في نفسه، عندما كان يشرح لنا كتابَ (علوم البلاغة) للأستاذ المراغي، يشرحه بطريقة أكاديمية يُدرك من خلالها المُتلقّي بداهةً أنّ الرّجلَ ذو اطّلاع واسع، وعلم غزير بأقوال العلماء والأدباء في هذا الفنّ، وأمّا الاستشهاد بأشعار العرب فهي نُصْبَ عينيه يأخذ منها ما يشاء ويترك ما يشاء. ويردّ على المخالف بطريقة هادئة ومقنعة.
وهو حفظه الله كأكثر الأدباء صاحبُ نكتة وفكاهة ومزاح يجعلك تترقّب موعد لقائه بشوق وشغف.
قلتُ له مرّة مازحًا ونحن في طريقنا إلى المسجد ليلقي درسًا في تفسير القرآن: ألا تفكّر في الزّواج بامرأة ثانية يا شيخ؟ فتبسّمَ ابتسامةً مُشرقةً، ثمّ قال بعفويّة:
أبعدَ أن شابَ رأسي ***أضيفُ بُؤسًا لبُؤسي
وعندما كنت أقرأ عليه بعض الكتب فيجد أصحابها قد خالفوا في بعض المسائل يقول لي: الظّاهر أنّهم لم يكونوا شاربين الشّاي المغربي.
وانطلقنا مرّة لقضاء بعض أغراضه، فلمّا قضيناها وقفلنا راجعين أحسّ أنّي أسرعُ الخطوَ، وبدلَ أن يقولَ لي اقصد في مشيك ولا تسرع فإنّني شيخ كبير قال:
(أبا هند فلا تعجلْ علينا) *** فإنّا قدْ طعنا في السّنينا
وهو يعلم أن ابنتي اسمها هند..
وأختم هذه الصفحات بثلاثة أبيات من أروع ما قرأت له/كما في ديوانه المطبوع (دم وقلم) ص:51:
بيني وبينَ العُــــــــلا كَـدّ ومُجتَـهَـدُ إن شئتُ نلتُ وإلاّ فالمنـى فنـدُ
حسبي من الدّهر أنّي لستُ أمدحـه وكيفَ يأويكَ من تهجو وتنتقدُ
قد خابَ من ظــــنّ بالأيّــام تنصِفُـه فبئسَ ما حملتْ وبئسَ مـا تلـدُ
في الحقيقة الكلام عن شيخنا لا يملّ، ومناقبه لا حدودَ لها، وفي الجِرَابِ الكثيرُ من الأخبار ولكن كما قيل: يكفيك من القِلادة ما أحاط بالعنق، ومن السِّوار ما أحاط بالمِعصم، فاللهَ أسأل أن يطيل في عمر شيخنا الحبيب، وأن يختم لنا وإياه بالحسنى، وأن يجمعنا به في جنّة الخلد إخوانا على سُرر متقابلين.