البر يوثق المودة

 

من المعلوم عند المؤمنين أن البر من أعظم أسباب المودة بين الناس في الدنيا، وأنه من أعظم أسباب السعادة في الآخرة.

أما كونه من أسباب المودة فلأن النفوس جبلت على محبة من يحسن إليها ويواسيها.

لذلك ندب الله تعالى إلى التعاون به وقرنه بالتقوى له فقال: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة:2). لأن في التقوى رضى الله تعالى، وفي البر رضى الناس. ومن جمع بين رضى الله تعالى ورضى الناس

فقد تمت سعادته وعمت نعمته.

أنواع البر

قال الماوردي في أدب الدنيا والدين “والبرّ نوعان: ‌صلة، ‌ومعروف. فأمّا الصّلة: فهي التّبرّع ببذل المال في الجهات المحدودة لغير عوض مطلوب، وهذا يبعث عليه سماحة النّفس وسخاؤها، ويمنع منه شحّها وإباؤها قال الله تعالى: “وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (الحشر:9) .

وأمّا النّوع الثّاني من البرّ فهو: المعروف: ويتنوّع أيضا نوعين: قولا وعملا. فأمّا القول: فهو طيب الكلام وحسن البشر، والتّودّد بجميل القول، وهذا يبعث عليه حسن الخلق، ورقّة الطّبع، ويجب أن يكون محدودا كالسّخاء؛ فإنّه إن أسرف فيه كان ملقا مذموما وإن توسّط واقتصد فيه كان معروفا وبرّا محمودا.

وأمّا العمل: فهو بذل الجاه والمساعدة بالنّفس والمعونة في النّائبة، وهذا يبعث عليه حبّ الخير للنّاس وإيثار الصّلاح لهم، وليس في هذه الأمور سرف ولا لغايتها حدّ بخلاف النّوع الأوّل؛ لأنّها وإن كثرت فهي أفعال خير تعود بنفعين: نفع على فاعلها في اكتساب الأجر وجميل الذّكر، ونفع على المعان بها في التّخفيف عنه والمساعدة له

وقال صلى الله عليه وسلم: “السخيُّ قريبٌ من اللهِ قريبٌ من الجنةِ قريبٌ من الناسِ بعيدٌ من النارِ والبخيلُ بعيدٌ من اللهِ بعيدٌ من الجنةِ بعيدٌ من الناسِ قريبٌ من النارِ ولَجاهلٌ سخيٌّ أحبُّ إلى اللهِ من عابدٍ بخِيلٍ، وأكبر الداء البخل”. (الترمذي وغيره).

وقال: “ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا”. (البخاري).

وأنزل في ذلك القرآن: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ} (الليل:5-7).

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- يعني من أعطى فيما أمر واتقى فيما حظر وصدق بالحسنى يعني بالخلف من عطائه.

قال الماوردي: (قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: لَسادات الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء.

وقيل في المثل: سؤدد بلا جود، كملك بلا جنود. وقال بعض الحكماء: الجود حارس الأعراض. وقال بعض الأدباء: من جاد ساد، ومن أضعف ازداد. وقال بعض الفصحاء: جود الرجل يحببه إلى أضداده، وبخله يبغضه إلى أولاده. وقال بعض الفصحاء: خير الأموال ما استرق حرا، وخير الأعمال ما استحق شكرا.

وقال صالح بن عبد القدوس:

وَيُظْهِرُ عَيْبَ الْمَرْءِ فِي النَّاسِ بُخْلُهُ                  وَيَسْتُرهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا سَخَاؤُهُ

تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَاءِ فَإِنَّنِي                 أَرَى كُلَّ عَيْبٍ فَالسَّخَاءُ غِطَاؤُهُ

وحَدُّ السخاء بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة، وأن يوصل إلى مستحقه بقدر الطاقة. وتدبير ذلك مستصعب، ولعل بعض من يحب أن ينسب إلى الكرم ينكر حد السخاء، ويجعل تقدير العطية فيه نوعا من البخل، وأن الجود بذل الموجود، وهذا تكلف يفضي إلى الجهل بحدود الفضائل. ولو كان الجود بذل الموجود لما كان للسرف موضع ولا للتبذير موقع.

وقد ورد الكتاب بذمهما وجاءت السنة بالنهي عنهما.

وإذا كان السخاء محدودا فمن وقف على حده سمي كريما وكان للحمد مستحقا، ومن قصر عنه سمي بخيلا وكان للذم مستوجبا.

قال بعض الحكماء: البخل جلباب المسكنة. وقال بعض الأدباء: البخيل ليس له خليل. وقال بعض البلغاء: البخيل حارس نعمته، وخازن ورثته.

وقال بعض الشعراء:

إذَا كُنْت جَمَّاعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا             فَأَنْتَ عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ

تُؤَدِّيهِ مَذْمُومًا إلَى غَيْرِ حَامِدٍ              فَيَأْكُلُهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *