«إن ترشح عضو في حزب إسلامي لمنصب رئاسة الجمهورية التركية, يهدد نظام الدولة العلماني».
هذا ما قالته مؤسسة الجيش التركي في أعقاب إعلان ما يسمى “حزب العدالة والتنمية” ترشيح أمينه العام ورئيس الحكومة الحالية لمنصب رئاسة واحدة من أبرز الدول “الديمقراطية” في الشرق الأوسط, حسب كثير من المتتبعين لشؤون المنطقة.
وقد احتدم الجدل, وتعالت أصوات الهيئات والمنظمات اللادينية في تركيا المسلمة للتنديد والاستنكار الشديدين تجاه هذا القرار من الحزب, وهو ما دفع قادتَه -أملا منهم في التقليل من حجم المعارضة الشديدةـ إلى ترشيح عضو آخر (وزير الخارجية) عوضا عن رئيس الوزراء, لكن بني علمان لا يعجبهم إلا من سار سيرهم وانتهج أسلوبهم في محاربة الدين, أمَّا من كان عنده ولو شيئا يسيرا من التدين فذاك هو عدوهم اللدود الذي ينبغي إقصاؤه, أو على الأقل تضييق الخناق عليه, حتى لو كان ذلك منافيا بالكلية لما يقال عن الديمقراطية التي تجري من بني علمان مجرى الدم؛ لهذا فقد واصلوا اعتراضهم إلى أن تم ما أرادوا.
وبغض النظر عما آلت إليه تلك القضية, ودونما دخول في حيثيات وتفاصيل تلك المعركة السياسية, فإن الهدف من هذه السطور هو بيان حقيقة العلمانية وزيفها, وكشف عوارها وتناقضها؛ وذلك في ثلاثة محاور, هذا أولها:
العلمانية في ميزان الشرع
لا يختلف اثنان من العقلاء حول كون قاعدة “فصل الدين عن الدولة” التي يطالب علمانيو البلدان الإسلامية صباح مساء بتطبيقها, مناقضة للدين ومجانبة له كليا, ذلك أن الدين شُرِّع ليُطبَّق على أرض الواقع, وليؤطر حياة بني آدم في جميع شؤونهم, يقول الله جل شأنه: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”, ولا يستقيم أن يقال إن العبادة منحصرة في المسجد فقط, فإذا خرج المسلم من صلاته عاث فسادا وأهلك الحرث والنسل, بل إن المسلم مأمور باتباع السبيل الرباني الذي ترسم معالمه مئات النصوص من الكتاب والسنة, والتي أوضح فيها الله تعالى ونبيه الكريم كل ما يتعلق بالناس في حركاتهم وسكناتهم, في سياستهم واقتصادهم وحربهم وسلمهم؛ في حين أن العلمانية تخالف ذلك كله, وتدعو إلى إسقاط سلطة الدين وإلغائها من القوانين والتشريعات, ليبقى الدين مجرد قيم وفضائل, ويتحول القرآن الكريم من دستور للأمة إلى سجل -كأي سجل تاريخي- يحتوي على أهم الأحداث والوقائع التي حدثت في مراحل تاريخية معينة, أو في أحسن الأحوال: كتاب للمواعظ والحِكَم, والقصص والحكايات.
إن مقولة “فصل الدين عن الدولة” ليست إذن, إلا ذريعة يتذرع بها قوم يرفضون الدين ليس فقط كنظام للحكم بل حتى كأسلوب حياة, لأنه يستحيل -وأقول يستحيل- أن يوجد مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر, يزهد في أعظم منهج وأقوم سبيل وأكمل نظام لتحقيق التقدم والرفعة والسعادة في الدارين, فتلك المقولة لا تصدر إلا مِمَّن أعمى الله بصيرته وأضل سعيه, وهذا هو حال كل من أعرض عن الحق وصد عن الهدى, وأقبل على الباطل وتشبت بالهوى.
إن الأدلة في شرعنا على الاختلاف التام والتباين الكامل بين الإسلام والعلمانية واضحة جلية, فالله جل شأنه ما أرسل الرسل ولا أنزل عليهم الكتب ولا أجرى على أيديهم المعجزات إلا لحمل الناس على توحيد ربهم, وتحكيم شرعه فوق أرضه وتحت سمائه, وفي مقابل ذلك: نبذ كل تشريع يخالف ملته من لدن آدم إلى قيام الساعة.
لقد جاءت الآيات والأحاديث بالعديد من الأمثلة التي تشير إلى عاقبة الأمم التي كفرت وأعرضت عن سبيل الرحمن, وسلكت طريق الشيطان, حيث أهلكها الله فذاقت في الدنيا الذل والهوان, وتوعدها سبحانه في الآخرة بالنيران, فكيف يجادل -بعد كل هذا- بنو علمان وقد قامت الحجة وسطع البرهان؟!! نعوذ بالله من الخذلان.
ولئن ادَّعى اللادينيون/العلمانيون أنهم يهدفون -بالعلمانية- إلى إخراج الأمة من تخلفها وجعلها في مصاف الدول المتقدمة, بحجة أن الغرب ما عرف التقدم ولا نعم بالرخاء إلا حين أقصى الكنيسة, وكمَّم أفواه الأحبار, فإن دعواهم باطلة, وحجتهم داحضة, لأن تاريخ هذه الأمة شاهد على أن المسلمين ما عاشوا في عز وتمكين إلا حين انقادوا لدين رب العالمين, فطوال الثلاثة عشر قرنا التي حُكِمَت فيها ديار الإسلام بالكتاب والسنة, كانت كلمة الأمة مسموعة ورايتها مرفوعة, ودماؤها وأعراضها محفوظة؛ ثم لما صارت الأمور بيد العلمانيين في معظم الدول الإسلامية, تحولت الأمة من رائدة للأمم نحو الهدى والنور, إلى تابعة خاضعة لسياسات الضلال والفجور.
صحيح أن المسلمين تعرضوا بين الفينة والأخرى لنكبات ومحن ولا يزالون, لكن المستقرئ للتاريخ بموضوعية لابد أن يقف على حقيقة واضحة, وهي أن الفتن لا تحل بديار المسلمين إلا حينما يبتعدون عن منهج الإسلام, كما قال عمر الفاروق رضي الله عنه: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام, فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”.
فبقدر ما يكون انحراف الأمة عن سبيل الرشد كبيرا, بقدر ما تشتد بها الخطوب وتعظم حولها الأخطار, وهذه سنة ربانية لا تتخلف على مر العصور وفي مختلف الأمصار, فاعتبروا يا أولي الأبصار.
إن المتأمل لهذه الأدلة -وهي شيء يسير جدا- لَيُدرك على الفور أن الفكر العلماني يرمي إلى إزاحة الدين من الحياة ككل, وهذا هو السر وراء كل ذلك الحقد الذي تقطر به كتابات بني علمان وبرامجهم التلفزيونية, والذي يُمرَّر تارة بِلُغة إقصائية واستئصالية تجاه ثوابت الأمة ومقدساتها, وتارة يتم تغليفه بأسلوب فكاهي ساخر يهزأ بمظاهر التدين (الحجاب, اللحية,..), وتارة ثالثة يزيفون تاريخ الأمة ويحرفونه بما يتماشى مع مخططاتهم المشؤومة, وقدوتهم في ذلك كله هم رواد ما يسمى بـ”عصر الأنوار”, الذين أخرجوا أوربا من ظلام الخرافة, وحرروها من قيود الدين(1), وانطلقوا بها نحو التحرر والديمقراطية؛ بيد أنه يكفي أن يقوم المرء بإطلالة على حال المجتمعات الغربية, ليقف على “بركات” عصر “الأنوار”, ويطلع على “منجزات” الديمقراطية.
فتلك هي العلمانية؛ وبال على البلاد والعباد, وشر مطلق يخرب الدين ويفسد الدنيا, فلا يترك إلا الخراب والفوضى؛ ومن زايد على هذا الكلام فدونه الواقع.
في العدد القادم بإذن الله, سيكون الحديث عن المحور الثاني: العلمانية تحارب ما تدعو إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – عندما ثار علمانيو أوربا ضد الكنيسة وصفوا المسيحية بالظلامية والماضوية والرجعية وما إلى ذلك, واعتبروا الأمور الغيبية خرافات, فتبعهم في هذا العلمانيون العرب, فوصفوا الإسلام بكل قبيح, ونعتوه بكل سوء.