نتيجة للمنطق الانتقائي توصل الخطاب الحداثي إلى أن عمر -رضي الله عنه- لم يكن خاضعاً لسلطة النص، وأنه استطاع أن يتخلص من هيبته، وأنه قدم نموذجاً مثالياً في التعامل المرن مع النص، لأجل أنه لم يكن يقدم على المصلحة شيئاً حتى ولو كان نصّاً قطعياً.
ونحن إذا رجعنا إلى التاريخ لنتحقق من هذه النتيجة التي توصل إليها الخِطاب الحداثي لا نجد ما هو مستفيض فيه منسجماً مع تلك النتيجة، بل هو على النقيض منها؛ فإنا نجد الروايات المنقولة عن عمر -رضي الله عنه- تقدم نموذجاً مثالياً عالياً في الخضوع للنص الشرعي والاستسلام لهيبته وهيمنته، وقبولاً تاماً لقدسيته، وانطلاقاً واضحاً من مضمونه، وتقديماً له على كل شيء، وقد غدت هذه الحال مشهورة عن عمر -رضي الله عنه- حتى لُقِّب بـ(الوقاف عند كتاب الله)1.
والآثار التي تؤكد هذا المعنى كثيرة جداً، فقد كتب إلى قاضيه يشرح له المنهجية المعتمَدة في بناء الأحكام الشرعية فقال له: (إذا حضرك أمر لا بد منه؛ فانظر ما في كتاب الله فاقضِ به، فإن لم يكن ففي ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن ففي ما قضى به الصالحون وأئمة العدل، فإن لم يكن فأنت بالخيار؛ فإن شئت أن تجتهد رأيك فاجتهد رأيك، وإن شئت أن تؤامرنِي)2.
وترك عمر في مشاهد كثيرة رأيه الذي بناه على القياس والاجتهاد لمَّا علم أنه مخالف للنص ومعارض له؛ فقد كان يفتي بأن المرأة لا ترث من دية زوجها حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فرجع عمر -رضي الله عنه- عن قوله3.
وكان -رضي الله عنه- يفتي بالتفاضل بين الأصابع في الدية اجتهاداً منه وتقديراً للمصلحة، حتى أُخِبر بقوله صلى الله عليه وسلم: «في كل إصبع عشرة من الإبل»، فرجع عن قوله4.
فهذه الشواهد التاريخية تظهر مقدار خضوع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للنص الشرعي ومقدار تسليمه له وتقديره واحترامه ومهابته، ومن المستبعد عقلاً مع تلك الحال أن يُقدِّم على النص شيئاً، ومن المستبعَد عقلاً أيضاً أن يلغي الحكم الثابت من أجل ما رآه من قياس أو مصلحة أو اجتهاد، وكيف يحق لنا أن ننقل عنه شيئاً يخالف الحال المعهود عنه؟
إن الغريب حقاً أن الخطاب الحداثي بنى تصوراته عن موقف عمر -رضي الله عنه- من النص الشرعي من غير أن يلتفت لتلك الأخبار ومن غير أن ينبه عليها أو يقدم جواباً مقنعاً حيالها.
ولا بد أن نقول: إن تقديس النص الشرعي والخضوع له ليس خاصاً بعمر -رضي الله عنه- فقط، بل هو المعروف عن الصحابة جميعاً -رضي الله عنهم- فهم من أشد الناس تمسكاً بمدلولات الكتاب والسُّنة، وأكثر الناس التزاماً بها، وتحاكماً إليها، ولا يقبلون مساومة على ذلك، وهذا المعنى مستفيض عنهم يظهر في تصرفاتهم وفتاواهم ومواقفهم.
ولو ذهبنا ننقل أخبارهم ومواقفهم التي تؤكد هذا المعنى لاستغرق ذلك وقتاً طويلاً، ومن ذلك: قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: (إذا حضرك أمر لا تجد منه بداً فاقض بما فيه كتاب الله، فإن عييت فاقض بسنَّة نبي الله، فإن عييت فاقض بما قضى به الصالحون، فإن عييت فأومئ إيماءً، فإن عييت فافرر منه ولا تستحِ)5.
وأنكر ابن عباس -رضي الله عنه- بشدة على من خالف النصوص برأي أبي بكر وعمر وقال: (يوشك أن تنزل عليكم حجرة من السماء؛ أقول لكم: قال رسول الله. وتقولون: قال أبو بكر وعمر)6.
ومن أقوى الشواهد التاريخية الخاصة التي تدل على أن الصحابة لا يقدِّمون المصلحة على النص، ولا يلغون الحكم الشرعي لأجل المصلحة ولو كان في قضية هينة، ومن ذلك الحادثة التي وقعت بين مروان بن الحكم وأبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- فإنه غيَّر من هيئة الترتيب في صلاة العيد، فقدَّم الخطبة على الصلاة، وتعلل بأن المصلحة تقتضي ذلك؛ لأن الناس لا يجلسون للخطبة فإذا صلُّوا انصرفوا، فأنكر عليه أبو سعيد فعله، وجعله من التغيير في دين الله ومن الابتداع فيه7.
فهذه الأخبار وغيرها تصوِّر للقارئ حال الصحابة مع النصوص الشرعية، وكيفية تعاطيهم معها، وتحدد المبدأ الوحيد المقدم على كل ما عداها.
وإذا قمنا بالمقارنة بين هذه الحالة وبين ما نسبه محمد عابد الجابري إلى الصحابة؛ من أنهم يقدمون المصلحة على كل شيء حتى على النص القطعي فسنجد أنه مارس التضليل المعرفي بشكل ظاهر، وصوَّر التاريخ على صورة مختلفة عما هي عليه؛ فهو لم يشر ولو إشارة بسيطة إلى تلك الأخبار، ومن ثَمَّ لم يقدم عنها أي جواب فضلاً عن أن يكون مقنعاً، وهذا كله يبيِّن للقارئ مقدار الخلل المنهجي في الآلية التي استخدمها الجابري في تحليل تراث الصحابة، ومقدار التسرب المعرفي في التصورات والنتائج التي بينَّانها عنه.
إن وقوع مثل هذا الخطأ الضخم يفتح الباب على مصراعيه أمام التساؤلات التي تضرب في أعمال البنية التي يقوم عليها الفكر الحداثي، ويثير أسئلة منهجية كبرى حول طريقته التي تعامل بها مع التراث، ويستوجب الاحتياطَ الشديد والتشككَ البالغ في النتائج التي توصل إليها.
القفز على الامتدادات التاريخية:
من العلوم لدى دارسي تاريخ العلوم الإسلامية أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يُعَد أحد أساتذة المدرسة الفقهية التي نشأت في المدينة المنورة في عصر التابعين؛ فقد اهتم علماء المدينة بنقل فتاواه وآثاره، واشتغلوا بالتفقه في مضامينها واستخراج أصولها ومبادئها.
ومن أشهر من عُرِف بذلك: سعيد بن المسيب؛ فقد وُصِف بأنه أعلم الناس بفقه عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- وشاركه بذلك بقية الفقهاء السبعة، وهم: عروة بن الزيبر، والقاسم بن محمد ابن أبي بكر، وعبيد الله بن عتبة، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار وسالم بن عبد الله (حفيد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه)8، ولم يُعرَف عن أحد من هؤلاء ولا عن أحد من تلاميذهم من توصل إلى ما توصل إليه الخطاب الحداثي؛ من أنه يقدِّم المصلحة على النص الشرعي، أو أنه يلغـي الحكـم الشـرعي لأجلهـا، وهم -بلا شك- أعلم بحال عمر وأكثر إدراكاً لتصرفاته وفتاواه، وأعمق فهماً للسياق التاريخي والاجتماعي الذي كان يعيشه؛ فهل من المقبول عقلاً أنَّ نترك ما فهمه الناس القريبون من عمر -رضي الله عنه- والأعلم به ونتبع من هو أبعد وأجهل؟
إن الخطاب الحداثي في تصرفه هذا مارس قفزاً فاضحاً على التاريخ، ولم يراعِ القرائن والدلائل المناقضة لما توصل إليه، ولم يعتبر الامتدادات التاريخية الواضحة التي لها التأثير البيِّن في مسيرة الفكر وتطوراته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- انظر: صحيح البخاري (4276).
2- أخرجه: النسائي: (5414)، والدارمي في المسند: (1/165)، وإسناده صحيح.
3- أخرجه: الترمذي: (1036)، وأبو داود: (2558)، وهو صحيح الإسناد.
4- أخرج القصة: عبدالرزاق في المصنف: (17698)، ابن أبي شيبة في المصنف: (9/194).
5- أخرجه: عبدالرزاق في المصنف: (15295).
6- أخرجه: أحمد: (3121).
7- انظر القصة في: صحيح البخاري: (956)، وصحيح مسلم: (2090).
8- انظر: الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، الحجوي: (1/253)، وتاريخ الفقه الإسلامي، إلياس درودور: (1/389).