غالبا ما يذكر المختصون أن المتعلم يحمل تمثلات (des Représentation) قد تكون صحيحة، وقد تكون خاطئة تستوجب تصويبا وتعديلا، ويذكرون أيضا أن المعلم الماهر، هو الذي يستطيع الكشف عن تلك التمثلات عبر الأسئلة الدقيقة والتقويمات التشخيصية، التي غالبا ما تتقدم المراحل التمهيدية.
إن الاهتمام بالتمثلات أمر لا مناص منه للاطلاع على ما يحمله المتعلم، لأن دماغ الإنسان ليس صفحة بيضاء كما يدعي السلوكيون، بل إن دماغ الإنسان وخصوصا المتعلم في سن السادسة أو السابعة، هذا الكائن البشري يأتي إلى المدرسة، وقد تعرض لمجموعة من الأحداث وتشرب دماغه بمجموعة من المعلومات والمعارف، التي قد تكون صوابا وقد يعتريها الخلل كما أسلفنا.
ولاشك أن الأبحاث النظرية والتطبيقية، أكدت أن التمثلات لها دور كبير في سيرورة التعلم، بل إنها تؤثر على السيرورات العليا للدماغ من تفكير، وتحليل وربط علاقات بين العناصر…
وهذه التمثلات، إما تذكي وثيرة التعلم لتجعل صاحبه متفوقا إذا كانت صائبة، وقد تعوق سير تعلمه إذا كانت خاطئة، خصوصا إذا أهملت ولم تخضع للتصويب والتعديل.
ومهما يكن فإن مصادر تلكم التمثلات كثيرة ومتعددة، تتمثل في الأصدقاء والأباء والإمام…
بمعنى أنها ذات علاقة بالمحيط المعاش، فتمثلات الطفل الذي يعيش سعيدا بين أبويه، ليست هي نفسها التي يتحلى بها محروم الوالدين، وكذا تمثلات الفقراء من الأطفال ليست هي نفسها عند الأغنياء منهم إلخ.
ولن نغالي إذا ما قلنا: إن المدرس يتوجب عليه الاطلاع على تلكم التمثلات القابعة في أدهان متعلميه، حتى يستطيع أن يساير تعليمه وفق ما تتطلبه تلك التمثلات وهذه الأخيرة ليست جامدة وذات علاقة بموضوع واحد، بل إنها تتغير بتغير المواضيع والحالات.
فطفل البادية مثلا والذي لم يسبق له أن رأى مسبحا، يتصوره بقعة من الماء الراكد الذي يغري بالسباحة صيفا، وطفل المدينة الذي لم يسبق له أن زار حقلا، يتخيل أن ثمار البطيخ لها شجرة كباقي الأشجار الباسقة، ولذلك تجده قد يسأل عن شكل شجرتها إذا سنحت له الفرصة بذلك.
وعموم القول فإن التمثلات لها دورها في التعلمات إما بالسلب أو الإيجاب، لكن هنا يطرح السؤال الذي يتحرج منه كثير من المدرسين، أليس لهم تمثلات نحو متعلميهم؟؟؟ والتي قد تؤثر على سير التعلمات.
الجواب بطبيعة الحال يجيب عنه المختصون، لكن غالبا ما تختفي هذه الحقيقة، والتجارب التي مررنا بها تؤكد أن تلك التصورات القابعة في دهن المدرس إذا لم يستطع الانفكاك عنها، قد تؤثر في شخص المتعلم، وقد تجعله انطوائيا أو عدوانيا، وفي أحسن الظروف يكره التعلم والدراسة نتيجة ممارسات المدرسين غير السوية جراء تمثلاتهم.
غالبا ما كنا نسمع المقولة التي لا تنتج إلا فشلا “عند الامتحان يعز المرء أو يهان” هذه المقولة ناتجة عن تمثلات خطيرة لا ينبغي أن يتحلى بها المدرس الفعال والنشيط والمفعم بالحيوية والتفاؤل، اتجاه تلامذته.
إن تلك المقولة لا أساس لها من الصحة، ما دامت أنها تهدم أكثر مما تبني، وإن حضور التلميذ لإجراء الامتحان كفيل بأن نشهد له بالرغبة في الدراسة، وسواء نجح أو رسب فإن مجموعة من الحيثيات هي التي رسمت تلك النتيجة من مدرس وأطر ومناهج ومقررات…
وقد لا يشدك العجب إذا تذكرت أن الكسالى من المتعلمين كان المدرس يجلسهم في آخر الصفوف، مع العلم أن التلميذ إذا قام من نومه وحمل محفظته وتوجه إلى المؤسسة لا يسمى كسولا، وهذا المصطلح المشين أيضا ينبغي أن يحذف من قاموس المدرسين الناجحين، وهو أيضا ناتج عن تمثل المدرسين الذين يظنون أن التلاميذ ومستويات تفكيرهم على وزان واحد.
مع جهلهم أن التلميذ الذي يشارك ليس بالضرورة أن يكون متفوقا، فقد تكون الأسرة تساعده وتشجعه في البيت، وأن التلميذ الذي لا يشارك ليس بالضرورة أن يكون كسولا لأنه قد يكون يعاني من أزمة نفسية فيصاب بالخجل والحياء، وأن التلميذ الذي يحدث الضجيج والغوغاء ليس بالضرورة أن يكون مشاغبا، فقد يكون محروما من حقه في التعبير داخل الأسرة، ولا يخفى على كل ذي عقل راجح، الصمت الذي كان يلازمنا قرب الكبار، فنتج عنه ما يسمى ب”عشق الظلال” والاختباء، إلا من سلمه الله في كبره فبرز نجمه ولم يأفل.
وكما سبق فإن أصول التمثلات بالنسبة للمدرسين عديدة، منها تمثلات لها علاقة ب:
المشاركة داخل الفصل: حيث إن المدرس إذا اعتاد على مشاركة أفراد معينين، فإنه بشكل أوطوماتيكي يقصي الآخرين، خصوصا إذا لم ينتبه أو إذ لم يكلف نفسه عناء إشراك الجميع، فإذا ما حصل الإقصاء نتج عنه عدم الرغبة في المشاركة مع إحداث البلبلة والفوضى، وتمكن التصورـ داخل دماغ المدرس ـ الذي مفاده أن تلك المجموعة لا تحب الدراسة، وأنهم مجرد كسالى، وهذه المشاركة قد تتغير بتغير الجنس.
مشاركة الإناث: إن المشاركة من طرف البنات تأخذ طابعا قد يحبذه المدرس لأن الفتيات بطبيعتهن يملن إلى استمالة المدرس، فإذا لم ينتبه تطبع بطبع يفيد أن الفتيات أحسن هدوءا ورغبة في التعلم، فينتج عن هذا كراهية المدرس من طرف الذكور، وقد يكرهون المادة التي يدرسها.
السكن والمستوى المعيشي: غالبا ما يقع المدرس المهمل لمهمته في تصنيف التلاميذ حسب مستوى معيشتهم ومهن آبائهم، فيتصور أن الحي الذي يسكنه بعض الذين لهم سوابق، ويسكنه تلميذ من تلاميذته قد يصبح هو الآخر مجرما وبالتالي يتوجس منه، ويظن أنه لا فائدة من إشراكه لأن المكان الذي يقطنه قد يؤثر على تعلماته، وعلى النقيض من ذلك فقد يقع في تصور يقوده إلى أن أبناء الميسورين غالبا ما يكونون مجتهدين، فينخرط في الاهتمام بهم مما يلجيء الآخرين إلى نهج أسلوب الغيرة والحقد وخلق المكائد.
الشكل والمظهر: إن اهتمام التلميذ بأناقته وشكله قد يؤثر على تمثلات المدرس بشكل عفوي، إذ قد يعجب به، فينخرط في الاهتمام به دون غيره،وقد يكون ذلك طبع في التلميذ أو نتيجة اهتمام أسرته به، لذا يتوجب على المدرس التحلي بضبط النفس والتعقل الذي يجعله واضعا لكل المتعلمين في كفة واحدة مهما اختلفت المظاهر والأشكال.
إذن هذه جملة من المصادر التي قد يبني عليها المدرس تصوراته وتمثلاته، وإلا فإن هنا منابع أخرى يطول ذكرها، وتلك التصورات قد تكون سببا في إخفاقات المتعلمين، ولو استقرأنا الواقع بإحصاء دقيق، لو وجدنا أن فئة من المجتمع لا يستهان بها قد أخفقت في حياتها، نتيجة تصرفات بعض المدرسين -سامحهم الله- الذي خضعوا لما كانت تمليه عليهم تمثلاتهم وتصوراتهم الخاطئة.